كان من خلاصة ما عرضته في الحلقة الاولى ان الله سبحانه وتعالى قد تدرج في تحريم الربا الذي استشرى في المجتمع الجاهلي على مدى اثنتي عشرة سنة او اكثر وانه قد مهد للتحريم القطعي بأيات تحض على الانفاق والتصدق وايتاء الزكاة باعتبارها البديل الشرعي للربا وبعد ذلك شرع الله لعباده التداين وافرد لذلك آية هي الاطول بين آيات القران الكريم مع كونها تلت ايات تحريم الربا مباشرة مع ما في ذلك من معان ودلالات.
وفي الحلقة الثانية اشرت الى ان حاجة المجتمع للتداين تزيد كثيرا عما يمكن ان تغطيه مصارف الزكاة والصدقة وأن البنوك التجارية قد قامت باقراض المال اللازم للمجتمع مقابل فوائد مالية تشكل في نظر اصحاب البنوك ضرورة تمليها متطلبات العمل المصرفي ..واشرت الى المرابحة في البنوك الاسلامية باعتبارها البديل لنظام الاقراض في البنوك التجارية مع بيان اختلافهما في الشكل فقط واتفاقهما في الجوهر باعتبار ان المرابحة تمويل لعمليات الشراء وعائدها ليس ربحا بالمعني الاقتصادي للربح.
وفي الحلقة الثالثة بدأت في البحث عن اجابة للتساؤل المطروح عما اذا كانت الفوائد البنكية هي من قبيل الربا المحرم ام لا ؟ وبدات في ذلك بالبحث في المفهوم اللغوي للربا من ايات القران الكريم واحاديث السنة النبوية وتوصلت الى ان الربا في اللغة ليس هو الزيادة فقط كما تقول بذلك معاجم اللغة العربية – وانما هو الضعف.
وفي الحلقة الرابعة ناقشت الجوانب الفقهية للموضوع ولاحظت على وجه الخصوص عدم وجود اجماع بين علماء الامة على تحريم الفوائد وقدمت قائمة طويلة باسماء العلماء القائلين بعدم التحريم وعرضت وجه نظر معاكسة مدعمة بالاسانيد الحجج التي يستند اليها الفقهاء القائلون بعدم التحريم.
وفي هذه الحلقة اعرض وجه النظر الاقتصادية في مسألة الفوائد البنكية وبوجه خاص لاهمية تلك الفوائد والدور الذي تلعبه في استقرار النظام الاقتصادي واسارع إلى التذكير بأننا نتحدث عن موقف البنوك في موضوع الاقراض، وبالتالي فان ما اقوله لا ينطبق على القروض الشخصية التي يتداولها الاشخاص فيما بينهم، فانت عندما تقدم قرضا محدوداً لقريب او صديق فانك لن تطالبه بدفع فوائد مالية وربما سامحته في المبلغ كله اذا كان ضمن ما يتقرر على مالك من زكاة او ما تجود به نفسك من صدقة او صلة رحم واما اذا كان المبلغ كبير نسبيا فانك والحالة هذه تتسامح في الفائدة فقط لنفس السبب وتتمسك بحقك في المبلغ الاصلي واذا زاد المبلغ المطلوب عن ذلك كثيرا فان موافقتك على الاقراض تتحدد وفق معايير كثيرة من بينها امكانياتك الكلية ومدى حاجة المقترض للمال او مدى ثقتك في قدرته على السداد ومدى استعدادك للتخلى له عن المبلغ لفترة زمنية معينة. ويحكمك في ذلك مجموعة كبيرة من الايات التي تتحدث عن ايتاء الزكاة والصدقة وتحض على فعل الخير وصلة الرحم مع التمييز في ذلك والدعوة الى عدم التبذير ما امكن ..انظر في ذلك قوله تعالى وات ذا القربي حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا ..ان المبذرين كانوا اخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا : وقوله عز وجل ولا تؤتوا السفهاء اموالكم
والموقف مع البنوك التجارية مختلف تماما فهي لا تستطيع ان تقرض للناس اموالا بدون فوائد مالية ولا بد ان تتقاضى فائدة بمعدلات تزيد عن تلك التي تدفعها للمودعين وذلك حتى تستمر في اداء عملها بدون انقطاع، وكلما ارتفع معدل الفائدة على الودائع ارتفع معدل فائدة الاقراض والعكس صحيح .
ونلاحظ ان ارتفاع معدل الفائدة او انخفاضه يؤثر تأثيرا مباشرا على مستوى النشاط الاقتصادي لاي بلد وذلك على النحو التالي :
– عندما يرتفع المعدل يصبح الافراد والمجمعات اكثر ميلا لزيادة مدخراتهم واقل رغبة في الاستثمار بسبب التكلفة المرتفعة فتحدث حالة من التراجع في النشاط الاقتصادي ويزداد عدد العاطلين عن العمل.
– واذا انخفضت معدلات الفائدة فان الافراد والجماعات يميلون الى زيادة الاستهلاك والاستثمار في الاصول العينية فينتعش الاقتصاد ويزداد عدد العاملين، ولكن استمرار انخفاض معدلات الفائدة لاكثر من ذلك سيؤدي الى زيادة كبيرة في الانفاق فيحدث ارتفاع في الاسعار وتزداد معدلات التضخم .
وعلى ذلك تؤدي البنوك المركزية دورا مهما في الحياة الاقتصادية من خلال تحكمها في معدلات الفائدة بما يسمح بتوجيه النشاط لينمو بوتيرة معتدلة بعيدا عن الوقوع في بؤرة الركود او التحليق في اجواء التضخم .
وعندما كان العالم يعيش في اجواء الكساد الكبير في الثلاثينيات من القرن العشرين، اقترح الاقتصادي البريطاني الشهير كينز في نظريته العامة للتشغيل والنقود ان يتم خفض معدلات الفائدة الى اقل مستوى ممكن بما يسمح بنمو النشاط الاقتصادي، وقد فهم بعض الفقهاء مقولته بشكل خاطئ واستشهدوا بها للدلالة على ان من الافضل وصول معدل الفائدة الى الصفر .. وقد اغفلوا ان الرجل طالب بخفض الفائدة الى هذا المستوى او قريبا منه في ظل ظروف استثنائيه جدا وغير عادية. ومن جهة اخرى نجد ان تغير مستويات معدلات الفائدة يؤثر تأثيرا كبيرا على اسعار صرف العملات وعلى وجهة انتقال رؤوس الاموال من بلد الى آخر والامثلة كثيرة على ذلك ولكنني اكتفي بمثالين الاول من مصر والثاني من قطر.. في مصر استقر سعر صرف الجنية المصري بعد سنوات طويلة من التراجع عند مستوى 3.30 جنية لكل دولار منذ أواخر الثمانينات وقد تحقق ذلك عندما اصبح سعر الفائدة على الجنية المصري اعلى من مثيله على الدولار بنحو 14% في بعض الاوقات بين عامي 1991 – 1992 وقد رافق ذلك الاستقرار توقف عمليات هجرة الاموال من مصر ومن الجنية وحدوث فائض كبير لدى البنوك المصرية من العملات الصعبة. وفي قطر تشير بيانات المصرف المركزي الى انه في السنوات التي كانت تقل فيها فوائد الايداع بالريال عن مثيلاتها بالعملات الاجنبية فإنه كانت تحدث عمليات تحويل كبيرة للرساميل الى الخارج سعيا وراء الفائدة الاعلى مما اضطر المصرف الى القبول بتعديل الفائدة على الريال بما يتناسب مع المعدلات العالمية وهذه الامثلة تبرز بوضوح مدى الاهمية القصوى لاستقرار معدلات الفائدة عند مستويات معينة بما يحافظ على اسعار الصرف وعلى مستوى النشاط الاقتصادي في أي بلد .
ورغم ان البنوك الاسلامية لا تتعامل بالفوائد بشكل مباشر الا انها تأخذ مستوياتها السائدة بعين الاعتبار سواء بالنسبة لفوائد الايداع او عند احتساب هامش الربح في عمليات المرابحة والمساومة.
ولا اذكر على الاطلاق ان البنوك الاسلامية في قطر قد اعطت لمودعيها أرباحاً مالية بنسب اعلى من تلك التي تمنحها البنوك التجارية على الودائع المناظرة للسنة او الشهر او التوفير كما انها كانت حريصة على رفع هامش ربحها في المرابحة كلما رفعت البنوك التجارية معدل فائدة الاقراض.
وهناك جانب اخر لا يمكن اغفاله في موضوع الفوائد البنكية وهو علاقتها بمستويات التضخم السائدة في كل بلد .. فالدول التي تعاني من ارتفاع معدل التضخم تضطر الى رفع معدلات الفائدة على عملاتها، وهي ان لم تفعل ذلك تواجه تدهورا مستمرا في سعر صرف تلك العملات مقابل العملات الاجنبية، ومن هنا فان جزءا مهما من سعر الفائدة الذي يدفع البنك لعملائه او يحتسبه عليهم انما يذهب لتغطية ما يحدثه التضخم من انخفاض مستمر في القيمة الشرائية للنقود. وفي حين يكون هذا الانخفاض واضحا وجليا كما حصل في دول مثل العراق ولبنان وتركيا وايران والسودان فانه يكون بطيئا ولا ينتبه اليه المرء في دول اخرى الا بمرور عدد من السنين. وفي الدوحة تنخفض القوة الشرائية للريال سنة بعد اخرى ولو كان لديك على سبيل المثال سبعون الف ريال عام 1987 فانه كان بإمكانك شراء سيارة امريكية من طراز كابريس بروجهام وبعد مرور عشر سنوات لم يعد بإمكانك فعل ذلك وستكون بحاجة في عام 1997 الى اكثر من مائة الف ريال لشراء سيارة مماثلة من الوكالة.
وقد رخص فضيلة الشيخ د. يوسف القرضاوي بان ياخذ المقرض او الدائن القيمة الحقيقية لأمواله من المقترض في تاريخ السداد وقال لتلفزيون قطر ان من غير المعقول سداد 100 الف ليرة لبنانية او تركية بالأسعار الحالية للصرف اذا كان المقترض قد حصل على القرض قبل سنوات طويلة، وهنا ينطبق قول المولى عز وجل فان تبتم فلكم رؤوس اموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ذلك ان سداد رأس المال فقط وبالاسعار الحالية للصرف فيه ظلم كبير لصاحب المال، ولكن فضيلة الشيخ القرضاوي لم يقدم الحل المناسب لمشكلة الصرف واقترح ربط القيمة بما كانت تساويه ذهباً في سنة الاقراض. وقد كتبت إلى فضيلته معلقا بأن هذا الربط لا يحل المشكلة في ظل تراجع اسعار الذهب فالمعروف ان سعر الذهب وصل في عام 1980 الى مستوى 845 دولار للاونصة ولكنه انخفض بعد ذلك وهو في السنوات الثماني الاخيرة لم يرتفع فوق مستوى 400 دولار للاونصة الا لفترات محدودة وهو عند اعداد هذه المقالة يتراجع الى ادنى مستوى له منذ اربع سنوات او اكثر، والحل من وجهة نظري لمشكلة تدهور سعر الصرف يتلخص في الآتي :
1. اذا كان الانخفاض في قيمة القرض محدودا فانه يمكن عندئذ تجاوزه او اعتباره من مصارف الزكاة وصلة الرحم .
2. اما اذا كان الانخفاض في القيمة كبيرا ويشكل عبئا لصاحب المال فان العدالة تقتضي تعويضه بما يعادل نسبة التضخم في فترة القرض وادق قياس لذلك هو احتساب فائدة بمعدل فائدة الايداع التي كان سيحصل عليها اذا اودع المال لدى البنك بالعملة المقترض بها .
3. واذا كان المقترض في حالة عسر ولا يمكنه الوفاء بالقيمة الحقيقية فان للمقرض ان يتصدق بفرق القيمة وأن يعفو فان الله يحب المحسنين .
الخلاصة :
انك عندما تقترض مبلغا من البنك فانك في الغالب تفعل ذلك لعدم توفر من يقرضك بدون فائدة واذا حصلت على المال من البنك فان ما تدفعه له من فائدة محدودة لا يمكن اعتباره الربا الذي نهى عنه القران والسنة النبوية لتعارض ذلك مع مفهوم الربا لغة ولعدم وجود ما يقطع بان معدلات الفائدة السائدة حاليا هي من الربا شرعا ثم إن ما تدفعه للبنك يتوزع بين ما يمكن اعتباره مقابل انخفاض القيمة الشرائية للنقود ولتغطية مصروفات البنك المختلفة. ويظل ما يقدمه لك البنك خدمة جليلة ترفع عنك الحرج من اللجوء الى الاخرين وليس في ذلك ظلم لاحد وبدون الفوائد تضطرب الحياة الاقتصادية لاي بلد على نحو ما اسلفنا