قد يكون من الصعب أحياناً التحقق من التغيرات الطارئة طويلة الأجل إذا ما تزامن حدوثها مع التغيرات الموسمية المعتادة التي تطرأ على الأسعار في السوق. ومن هنا فإنني عندما نشرت تحليلاتي عن الأسعار في بداية شهر نوفمبر الماضي، فإنني قد بنيتها على ما استخلصته من البيانات المنشورة عن الشركات لفترة الشهور التسعة الأولى من العام ، مع القياس في ذلك على ما حدث في السنوات السابقة. وأعترف أنني لم أنتبه في ذلك الوقت إلى المستجدات الطارئة التي كانت قد بدأت تطل برأسها بشدة على المشهد العام للأحداث رغم إدراكي المسبق لها.
وأذكر على سبيل المثال أنه لم يغب عن ذهني ما لقرار السماح لغير القطريين من تأثير محتمل على مستويات الأسعار، إلا أنني قدرت أن ذلك التأثير لن يظهر إلا عند حدوث الفعل نفسه وليس قبله… وسمعت من يقول إن هناك رغبة من البعض في استباق دخول الأجانب للسوق لشراء الأسهم التي كانت حتى بداية السنة عند مستويات منخفضة، وخاصة تلك الشركات التي تدعمها الحكومة أو تشارك فيها. إلا أنني لم آخذ هذه المقولات على محمل الجد، وآثرت التركيز على معطيات كل شركة في تحديد المستوى المحتمل لأسعار أسهمها. وكان من رأيي أن حجم الاكتتاب في ناقلات سيكون كبيراً بالقدر الكافي لامتصاص أي تأثيرات أضافية على أسعار أسهم الشركات الأخرى في هذه الفترة وحتى نهاية شهر فبراير.
وقد سارت الأمور على مايرام ما بين شهري نوفمبر وديسمبر عندما ارتفعت أسعار أسهم البنوك وشركات التأمين، وسحبت معها بدرجة محدودة أسعار أسهم بعض الشركات. ثم حدث انخفاض ملموس في أسعار الأسهم بوجع عام في النصف الثاني من شهر ديسمبر، وكان كل ذلك متوقعاً ومفهوماً وفي السياق العام لحركة الأسعار المنتظرة في موسم جني الأرباح.
وفجأة وعلى حين غرة، هبت رياح عاتية على سوق الدوحة وبالتحديد على بعض أسهم شركات الخدمات والصناعة، وبوجه خاص على سعر سهم شركة صناعات، وكانت الرياح من الشدة بحيث اقتلعت الأسهم من جذورها التي تسمرت عندها لشهور طويلة، وحلقت بها عالياً لنحو عشرة أيام متتالية قبل أن تهدأ. وقد تعددت الأقوال في تفسير ما حدث، فقيل إنه مستثمر كبير أو أكثر دخلوا السوق فجأة لاقتناص كل الفرص المتاحة قبل دخول الأجانب. وهناك من انتشى وأدعى بأنها سوقنا المبدعة المرتفعة دائماً باعتبار أن السوق مرآة لواقع اقتصادي جديد تعيشه قطر.
وكما هدأت تاسونامي في المحيط الهندي، هدأت عاصفة السوق، وعاد المؤشر إلى التراجع ثانية قبل العيد وبعده. وعدت إلى التمسك بالثوابت في تحليل السوق وإن تحفظت لما قد يجرى بالقول إن توقعاتي للسوق تفترض أن الأمور ستسير بشكل معتاد، وإن أي ظروف استثنائية ناتجة عن عودة كبار المستثمرين للسوق سوف تؤدي بالتأكيد إلى خلق واقع جديد.
وفي تحليلي اليومي لسوق الدوحة خلال الأسبوعين الماضيين وجدت أن رياح التغيير الطارئة قد عادت ثانية وإن بشكل متدرج وغير كاسح. وفي حين أننا لم نعد نرى تلك الزيادات القصوى التي تلحق بالأسعار يومياً(10%) إلا ما ندر، إلا أن تواصل الطلب المتدرج على الأسهم قد أكسب أسعار أسهم عدد متزايد من الشركات زخماً وتراكماً يوماً بعد آخر. وفي حين كانت الأنظار تتركز على ما ستعلنه البنوك وشركات التأمين من توزيعات سهمية، فإن الرياح التي أشرت إليها كانت تدفع في صمت لتحقيق اختراقات يومية في أسعار أسهم شركات بعينها في قطاعي الصناعة والخدمات.
ورحت أتأمل ماجرى اليوم والأمس في السوق، فوجدت أن بعضه على الأقل مخالف لقواعد المنطق. وبعد مراجعة شاملة للمعطيات بدأت أميل إلى مقولة أن مستثمرين كبار وليسوا مجرد مضاربين قد قرروا شراء كميات كبيرة من الأسهم بشكل تدريجي طالما أنها تحقق لهم عائداً سنوياً معقولاً. وبدا لي أن ما كنا نسمعه بالأمس من همس، قد بات له اليوم أرجل يقف عليها ويتماسك، وأن مقولة استباق الأحداث وشراء ما يمكن شراؤه من أسهم بسعر منخفض، تجد لها صدى من الواقع.
ولو عدنا بعد هذا الاسترسال الطويل إلى ما جرى في السوق اليوم الإثنين لوجدنا أن 18 شركة قد ارتفعت أسعار أسهمها مقابل انخفاض أسعار أسهم 7 شركات واستقرار أسعار أسهم 5 شركات أخرى. وقد ارتفع المؤشر 73.5 نقطة، وبلغ حجم التداول 2.8 مليون سهم قيمتها الإجمالية 279 مليون ريال. وهذه المعطيات تنم عن قوة متزايدة غير متوقعة في ظرف الاكتتاب. فما هي أهم ملامح ما حدث اليوم:
1-ارتفاع بأقل من المنتظر في سعر سهم المصرف الذي انكشفت أوراقه، وارتفاع أكثر في أسعار سهمي الدولي والدوحة بانتظار أية مفاجئات من توزيعاتهما، مع استقرار في أسعار أسهم بقية شركات البنوك والتأمين.
2- تصدع لليوم الثاني في جبهة الإسمنت وكيوتيل وبدرجة أقل في النقل البحري والتخصصي.
3- ارتفاع ملحوظ في أسعار أسهم: صناعات (3.9 ريال) والتنمية(1.4 ريال) والطبية(1.1 ريال) وبحجم تداول يزيد قليلاً عن المليون سهم في الشركات الثلاث.
4- ارتفاع آخر في أسعار أسهم الملاحة(6.1 ريال)، والكهرباء والماء(6.1 ريال)، والوقود(3.9 ريال)، والفحص الفني(2.4 ريال)، وكلها-ما عدا الملاحة- شركات ذات علاقة بالحكومة بدرجة أو بأخرى، وبحجم تداول يصل في مجموعه إلى 600 ألف سهم.
وإذاً هناك ظاهرة جديدة تحدث، فهل يلحق المضاربون بها لإغتنام الفرص؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في مقال تال هذا الأسبوع إن شاء المولى عز وجل.