قانون الانتفاع العقاري.. تأملات وتوقعات

أظهرت دولة قطر اهتماماً كبيراً بمكافحة التضخم، من خلال إصدارها في الأسبوع الماضي لعدد من القوانين بشأن تنظيم الزيادة في أسعار الإيجارات، وبالسماح لغير القطريين بالانتفاع بالعقارات لمدة 99 سنة قابلة للتجديد في 18 منطقة متفرقة من قطر. وقد جاء صدور هذه القوانين بعد أن بدا واضحاً أن معدل التضخم الذي ظل لسنوات طويلة تحت السيطرة ولا يزيد عن 2-4%، قد خرج في العامين الماضيين من عقاله، وأنه وصل في ديسمبر 2005 إلى مستوى 14% مقارنة بما كان عليه الحال في ديسمبر 2004، وفقاً للإحصاءات الصادرة عن مجلس التخطيط. وبعد دراسة الأسباب الداعية إلى ذلك، تأكد أن الزيادة في معدلات الإيجارات وأثمان العقارات هي السبب الرئيسي وراء انفلات معدل التضخم. المعروف أن أسعار العقارات والإيجارات قد بدأت في الارتفاع منذ عام 2003، واستمرت في الارتفاع في عامي 2004 و2005 بحيث أن الرقم القياسي لبند الإيجار بمفرده قد ارتفع في عام 2005 بنسبة 34%.

والزيادة في الإيجارات التي كانت في حالات كثيرة تصل إلى ضعف ماكانت عليه قبل سنة، وضعفي أو ثلاثة أضعاف ما كانت عليه في عام 2003، قد تسببت في خلق مشاكل لا حصر لها لفئات من المقيمين والقطريين، مما اضطر كثير من العاملين إلى الاستقالة أو تسفير عائلاتهم خارج قطر أو الضغط على جهات عملهم لزيادة علاوات السكن أو العلاوة الاجتماعية. ورغم أن مصدر التضخم ظل في معظمه متركزاً في بند الإيجارات إلا إنه كان من الواضح أن أثر هذه الزيادات الكبيرة في أسعار الإيجارات قد بدأت تنتقل إلى البنود الأخرى، مما يعني امكانية دخول الاقتصاد في دوامة وحلقة مفرغة من الزيادات المتتالية التي تبقي معدل التضخم مرتفعاً جداً.

والتضخم في جوهره هو ارتفاع عام في أسعار السلع والخدمات ويحدث نتيجة اختلال ميزان العرض والطلب على السلع-كما حدث في موضوع العقارات- أو نتيجة لارتفاع أسعار السلع المستوردة، إما بسبب ارتفاع تكاليف انتاج تلك السلع في بلدانها أو بسبب انخفاض سعر صرف العملة المحلية. وفي قطر ظل سعر صرف الريال ثابتاً أمام الدولار، وقوياً أمام عملات الدول العربية والآسيوية المصدرة لقطر، ومتذبذباً صعوداً وهبوطاً أمام العملات الأخرى الرئيسية. وبالتالي فإن المصدر الرئيسي للتضخم قد تمثل في اختلال ميزان العرض والطلب على العقارات نتيجة النمو الاقتصادي القوي الذي بلغ 20% أو أكثر في متوسط السنوات الستة الأخيرة. المعروف أن النمو الاقتصادي يكون سبباً في خلق وظائف جديدة عديدة وهذه الوظائف بحاجة إلى موظفين. وإذا جاء الموظفون الجدد من داخل اليلاد، فإن الأثر الكلي على طلب العقارات يكون محدوداً بنسبة النمو فقط، أما إذا كانت سوق العمالة مفتوحاً لجلب معظم العمالة الجديدة من الخارج، فإن الأثر الكلي يكون مضاعفاً. فالموظفون الجدد وعائلاتهم يشكلون زيادة إضافية في عدد السكان، ويضغطون بالتالي على مرافق الخدمات المتاحة من صحة وتعليم وجوازات وبلدية وعلى الخدمات المالية والأمنية والمواصلات ودور العبادة وامدادات الطعام والشراب وغيرها فتجد كافة القطاعات نفسها مضطرة إلى التوسع من جديد وإلى طلب موظفين جدد يأتي جزء منهم من الخارج وتتكرر الدورة بدون نهاية.

وإزاء مشكلة التضخم تحركت الحكومة في أكثر من اتجاه، منها ما قيل عن تأجيل تنفيذ بعض المشروعات للحد من الإنفاق المالي، ومنها تحرك مصرف قطر المركزي بأدوات السياسة النقدية للحد من الزيادة الكبيرة في عرض النقد. ثم جاءت مجموعة القوانين الجديدة لتعطي للجهود الحكومية بُعداً آخر يعجل بلجم التضخم ووقف انفلاته. فالقانون الأول يحمي المستأجر من مغالاة بعض المؤجرين بحيث لا يسمح إلا بزيادة حدها الأقصى 10% في السنة الواحدة، وهذا الأمر مهم جداً في بث الطمأنينة في نفوس المستأجرين، ومنع حدوث حالات استغلال تضر بالمجتمع، وهو بذلك يوقف أحد مصادر الزيادة في اسعار الإيجارات والعقارات في زمن قصير.

ثم جاءت القوانين الأخيرة لتعالج مشكلة التضخم في الأجل الطويل عن طريق إعادة التوازن لسوق العقارات. فقد فتحت هذه القوانين مجال الاستثمار في العقارات أمام الخليجيين بالتملك في ثلاث مناطق جديدة، وبالانتفاع لغير القطريين لآجال طويلة تصل إلى 99 سنة قابلة للتمديد إلى آجال مماثلة في 18 منطقة. وهذه القوانين سيكون لها آثار عظيمة لصالح الاقتصاد القطري، فهي من ناحية ستعمل على إنجاز التطوير العمراني في دولة قطر بخطى متسارعة، وهو ما سيؤدي إلى توازن المعروض والمطلوب في سوق العقارات فتتلاشى الضغوط التضخمية. و يكون لهذه القوانين من جهة أخرى تأثيرات إيجابية لحهة الإبقاء على معدلات النمو في قطاعات التشييد والبناء والقطاعات المالية والخدمات المختلفة.

إن القانون الأخير الخاص بغير القطريين يُنشئ سوقاً جديدة للعقارات المنتفع بها ويوفر لغير القطريين فرصاً لتحقيق إدخار حقيقي أثناء تواجدهم في قطر. ومن المتصور ان تقدم البنوك بنوعيها التقليدي والإسلامي، التمويلات المطلوبة لانتفاع غير القطريين بالعقارات، مما يخلق أمامها فرصاً ممتازة لتشغيل أموالها. كما أن هذا النوع من الخدمات سيتطلب بالضرورة نمو قطاع سمسرة العقارات وخدمات المحامين الذين تحتاجهم وما إلى ذلك. بل أكثر من ذلك أن هذا القانون سيعيد تشكيل نمط إسكان غير القطريين الذين سيرغب الكثير منهم في الأجل الطويل في الحصول على بدل سكن بدلاً من التمتع بسكن مؤثث على خلفية أن ذلك سيعود عليهم بإدخار إضافي عند نهاية مدة إقامتهم أو عند انتقالهم لسكن آخر.

إن مجموعة القوانين الجديدة تمثل خطوة أخرى كبيرة على طريق بناء دولة قطر الحديثة على أسس سليمة دونما معوقات أو مثبطات، وأحسب أنها لن تكون الأخيرة في ذلك وسيتبعها قوانين أخرى أكثر تفعيلاً للحياة الاقتصادية والاجتماعية في قطر كلما دعت الضرورة لذلك. ولكنني مع ذلك أحسب أنها بحاجة إلى مزيد من التوضيح والتنوير من خلال الصحف والإذاعة والتلفزيون لمعرفة الكيقية التي ستتم بها عملية الانتفاع بالتفصيل. وتظل كلمة أخيرة وهي أنه سيكون لهذه القوانين تأثيرات هامة على أسعار أسهم الشركات ذات العلاقة كالعقارية والبنوك وشركات التمويل والإجارة وخدمات الاستثمار وغيرها.