المقاطعة الاقتصادية للدانمرك.. الطريق والمنهج

المقاطعة الاقتصادية هي أحد أساليب المقاومة التي جربتها شعوب قبلنا كما في الهند واليابان، وحققت بها نتائج جيدة في مواجهة المستعمرين أو المنتصرين عليها في الحروب. وفي عالمنا العربي مارسنا المقاطعة ضد المنتجات الغربية في مناسبات عديدة وضد إسرائيل لسنوات طويلة، وقد نجحنا كعرب في تحقيق أهدافنا من وراء المقاطعة في حالات معينة، ولكننا فشلنا في تحققق النتائج المرجوة في أماكن وظروف أخرى.

لقد مارست دولنا العربية سلاح المقاطعة ضد إسرائيل منذ عام 1948، ورغم أن هذه المقاطعة لم تقض على إسرائيل، إلا أنها عملت على إبقاء الكيان الإسرائيلي لسنوات طويلة عالة على معونات الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة، كما ساهمت في حفظ اقتصاداتنا العربية من هيمنة وسيطرة المصالح الإسرائيلية عليها. وجربت الدول العربية سلاح المقاطعة البترولية ضد الولايات المتحد عام 1973، وكان من نتيجة ذلك أن ارتفعت أسعار النفط بقوة في تلك الفترة فيما عرف يومها بصدمة أسعار النفط الأولى.

وعلى المستوى الشعبي، مارست نقابات عمال الموانئ العربية في عام 1961 مقاطعة تحميل وتفريغ السفن الأمريكية في الموانئ العربية عندما قرر العمال الأمريكيون مقاطعة السفينة المصرية كليوباترا في نيويورك، فكان أن تراجع الأمريكيون عن غطرستهم وتعاملوا مع كليوباترة حسبما يقتضيه الواجب. كما مارس الشعب العربي في مصر منذ عام 1979 مقاطعة ذاتية ضد البضائع الإسرائيلية وضد التطبيع السياسي والاقتصادي، ونجحت هذه الجهود في إبقاء السلام مع إسرائيل سلاماً فاتراً وباهتاً. وتنادت الشعوب العربية لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية والأمريكية بعد أن تفجرت انتفاضة الأقصى عام 2000، ولكن المقاطعة لم تستمر ولم تنجح بالتالي في إحداث المساندة المطلوبة للشعب الفلسطيني.

وفي المقابل، مورست المقاطعة الاقتصادية ضد بلداننا العربية في مناسبات مختلفة، ونذكر من ذلك المقاطعة الأمريكية ضد مصر في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، والحصار الاقتصادي ضد العراق الذي انتهى باحتلاله عام 2003، والمقاطعة الاقتصادية ضد ليبيا التي انتهت بخضوع النظام الليبي لطلبات الدول الغربية، ويجري حالياً التلويح والتخطيط بمقاطعة اقتصادية لسوريا. أي أن المقاطعة سلاح ذو حدين إذ يمكن أن يكون موجهاً ضدنا بقدر ما أنه سلاح في أيدينا لنصرة قضايانا وديننا الإسلامي الحنيف. ونحن هنا اليوم لنتدارس مدى إمكانية نجاح المقاطعة الاقتصادية ضد الدانمرك على ضوء تجاربنا السابقة في هذا المجال على المستويين الرسمي والشعبي، وعلى ضوء ظروفنا الراهنة.

دعونا في البداية نتعرف بالأرقام على الدانمرك: إنها بلد أوروبي صغير إذ لا يتجاوز عدد سكانها 5.5 مليون نسمة ولكنها مع ذلك في مقدمة الدول الغنية في العالم؛ وهي من حيث الترتيب خامس الدول الأوروبية بمعيار متوسط دخل الفرد، الذي بلغ في عام 2004 مستوى 31.1 ألف دولار أمريكي. وقد بلغ انتاجها السنوي في تلك السنة 174.4 مليار دولار. وتتمتع الدانمرك بفائض في ميزانها التجاري مع العالم يصل إلى نحو نصف مليار دولار شهرياً، وذلك لأنها تصدر أكثر مما تستورد. والدانمرك عضو في الاتحاد الأوروبي، وعضو في منظمة التجارة العالمية.

ويبدو للوهلة الأولى أن ممارسة المقاطعة ضد الدانمرك أمر هين باعتبار أنها بلد صغير ونحن أمة عربية تزيد على 300 مليون نسمة ومن خلفنا عالم إسلامي يزيد على المليار مسلم. وهذا الشيئ صحيح إذا ما تكلمنا عن المقاطعة الشعبية المعززة بمؤازرة حكومية، ولكنني أظن أن المقاطعة الحكومية غير ممكنة فضلاً عن أنها غير مجدية في هذا الزمان للأسباب التالية:

1- أن الزمن قد تغير منذ إنهيار الإتحاد السوفييتي عام 1991، وانفراد الولايات المتحدة بالهيمنة على العالم، وما تلاه من إنشاء منظمة التجارة العالمية التي لها قوانينها ونظمها بحيث يصعب على بلداننا التي انضمت إلى المنظمة أن تمارس تمييزاً تجارياً واقتصادياً ضد أي بلد عضو في المنظمة. كما أن الدانمرك عضو في الإتحاد الأوروبي الذي أصبح منذ نهاية القرن الماضي ، كياناً اقتصاديا عملاقاً، ولا تسطيع دولنا أن تتخذ إجراءات مقاطعة ضد بلد عضو في الاتحاد الأوروبي وإلا تعرضت لعقوبات من بقية البلدان الأوروبية.

2- إن دولنا العربية بحاجة إلى أوروبا بمثل حاجة أوروبا إلينا أو أكثر، فهم يحتاجون منا البترول والغاز وبعض المواد الخام والمنتجات المحدودة، ونحن للأسف لا زلنا بحاجة إلى منتجاتهم الصناعية والتكنولوجية العديدة، بدءاً من الهواتف المحمولة في جيوبنا إلى النظارات والساعات التي نلبسها إلى الأدوية التي نتعاطاها إلى السيارات والطائرات التي نركبها، إلى الأجهزة والمعدات التي نستخدمها في مصانعنا أو بيوتنا. باختصار إن الميزان التجاري العربي في حالة عجز مع أوروبا لكثرة ما نستورده منهم وقلة ما نصدره اليهم.

3- أن بعض الدول العربية وخاصة في شمال إفريقيا ولبنان وفلسطين والأردن والعراق تعتمد على المساعدات الأوروبية، وتعول كثيراً للحصول على أفضلية في المعاملة وعلى حق الأولوية لدخول منتجاتها إلى السوق الأوروبي الواسع.

4- أن النظام العربي السياسي في حالة ضعف وفي حالة تقهقر ودفاع عن النفس في وجه الهجمة الأمريكية على المنطقة، ولننظر في ذلك كيف يحاول السودان لملمة أطرافه في مواجهة دعوات متزايدة لفرض عقوبات اقتصادية عليه، وكيف تمشي سوريا على الأشواك للإفلات مما يدبر لها في السر والعلن. ثم إن إيران من حولنا وهي دولة إسلامية كبرى تكاد تقترب من فرض مقاطعة اقتصادية ضدها بسبب برنامجها النووي. ثم إن المقاطعة الرسمية لكي تكون جادة ومثمرة لا بد لها أن تكون جماعية على مستوى العرب والمسلمين، وفي هذا الصدد فإن عقد قمة عربية لاتخاذ قرار ضد الدانمراك يبدو غير ممكن.

أما المقاطعة الشعبية على المستويين العربي والإسلامي فإنها ممكنة وقابلة للتطبيق العملي إذا ما أحسن التخطيط لها، ومتابعتها وعدم تركها للعشوائية التي تضر ولا تنفع.

فمن حُسن الطالع أن وارداتنا من الدانمرك تنحصر غالباً في مجال الأغذية والمشروبات وبعض مواد التجميل، وهي أمور يمكن الاستغناء عنها لصالح بدائل محلية أو من دول أخرى صديقة. ويكفي أن يدقق كل منا في السلعة التي يشتريها قبل أن يضعها في عربة التسوق، كما أن على التجار الذين يستوردون البضائع الدانمركية أن يتوقفوا عن ذلك طواعية قبل أن تكسد بضائعهم في مخازنهم ويتكبدوا خسائر لا لزوم لها. وتمتلئ منتديات الإنترنت والصحف بقوائم السلع التي يجب مقاطعتها، وأود في هذه المناسبة أن أميز بين نوعين من السلع:

الأول: سلع يتم انتاجها واستيرادها مباشرة من الدانمارك وأشهرها زبدة اللورباك وجبنة بوك وجبنة فيتا واللنشون ماركة توليب وحليب أنكور ونيدو وغيرها وبعض مواد التجميل مثل صابون وكريم هازا وجل الشعر زاتا,

الثاني: منتجات عربية محلية بأيدي عمالنا وباستعمال مواد خام محلية وإن بترخيص من شركات دانمركية، مثل عصائر شركة كي دي دي الكويتية وأجبان فيتا السعودية ومعجون طماطم السعودية.

والنوع الأول هو الذي يجب أن تتركز جهود المقاطعة الشعبية عليه حتى يصل تأثيره مباشرة إلى المنتج الدانمركي، أما النوع الثاني فإن مقاطعتنا له تصيب استثماراتنا وعمالنا أولاً بالسوء قبل أن تصيب الدانمركيين، ومع ذلك يجب التقليل من استهلاك هذه السلع لصالح بدائل أخرى محلية.

على أن التأثير المطلوب لا يمكن أن يحدث إلا إذا تضافرت الجهود الشعبية على مستوى العالم الإسلامي وليس العربي فقط، ويكفي أن أشير هنا إلى أن واردات قطر من الدانمرك في عام 2004 كانت في حدود 47 مليون ريال قطري أو أقل من 13 مليون دولار، كما أنها في بلد كبير كالسعودية لا تكاد تصل إلى 700 مليون ريال أو 200 مليون دولار أمريكي.

كما أنه رغم ضعف النظام العربي الرسمي فإن بإمكان بعض الدول على الأقل أن تمارس نوعاً من المساندة للجهود الشعبية من خلال مواقف سياسية معينة وبتقليص حجم الانفتاح الاقتصادي مع الدانمرك كلما كان ذلك ممكناً. وعلى سبيل المثال فإن هناك شركة بترولية دانمركية تعمل في قطر اسمها ميرسك تنتج نفطاً من أحد الحقول البحرية بنظام مقاسمة الإنتاج منذ منتصف التسعينيات في ظل عقود موقعة مع قطر للبترول، ويمكن النظر في عدم تجديد العقد مع الشركة عند نهايته، أو عدم منحها مناطق أخرى للاستكشاف، وينطبق نفس الشيئ على الشركات الدانمركية في بقية دول العالم الإسلامي.

وخلاصة ما تقدم أن نتيجة المقاطعة ضد الدانمرك كبلد غني تبدو محدودة الأثر بوجه عام لضعف علاقته بالعالم العربي والإسلامي، ولكن استخدام سلاح المقاطعة ضد عدد معين من المنتجات الدانمركية سوف يؤثر ولا شك على صادرات هذه الشركات وقد يوقعها في خسائر وهو ما يجب أن نركز عليه ولكن في هدوء ودون ضجيج. ودعوني أقولها لكم بصراحة، إننا قد نجد أنفسنا في مواجهة مع أوروبا بأكملها ونخسر تأييدها المحدود لبعض قضايانا في مواجهة الإنحياز الأمريكي الكامل لإسرائيل. وليس من قبيل المصادفة أن تنفجر هذه الأزمة في هذا الوقت بالذات، وأشعر أن هناك أيدي صهيونية خبيثة اختارت الدانمرك لإحداث فتنة مقصودة لإثارة التشاحن والبغضاء بيننا وبين الأوروبيين، بعد أن وصلت حماس بالانتخابات إلى مقاعد الحكم في فلسطين، وبعد أن نجح الإخوان في فرض أنفسهم على الشارع السياسي في مصر. نعم هناك من يريد خلط الأوراق، وبالتالي يجب أن نفكر فيما نقوم به ولا تجرنا الإنفعالات الزائدة ونفعل ما فعله أهل الشام في دمشق وبيروت من تدمير وخراب للقنصليات الدانمركية.

وتظل هناك نقطة هامة لا بد أن ننتبه لها وهي أن بعض بنوكنا ومحافظنا الاستثمارية درجت على جمع مدخرات الناس واستثمارها في أمريكا وأوروبا، ومثل هذه الاستثمارات قد تصل بالضرورة إلى بلد مثل الدانمرك وعلى لجان الرقابة الشرعية للبنوك الإسلامية وعلى مجالس إدارات الشركات أن تتأكد من عدم حدوث ذلك. ولا أنسى في هذا الخصوص أنه في الوقت الذي كان فيه شيوخنا الأفاضل يحثون على مقاطعة المنتجات الأمريكية في عام 2000 كانت بعض البنوك الإسلامية تجمع المدخرات وتوظفها في استثمارات أمريكية وأسهم أمريكية ضمن محافظ أطلق عليها في حينه داو جونز الإسلامي.