مؤتمر البحث العلمي والإنطلاق نحو مستقبل مشرق

الحدث الذي عاشته قطر هذا الأسبوع هو بالتأكيد حدث غير عادي، ويبرهن على أن لدولة قطر رؤية واضحة وطموحة ، وأنها تتحرك نحو المستقبل الواعد بخطى ثابتة ومدروسة. وإذا كان الله العظيم قد حبا قطر بثروة بترولية وغازية تجعلها في ظل أسعار النفط الراهنة من بين أغنى الأمم بمعيار متوسط دخل الفرد، فإن هذا الغنى لم يكن ليستمر وليبقى إذا لم نستثمره فيما ينفع الناس، وذلك تأكيداً لقول المولى عز وجل: وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، صدق الله العظيم. لقد أدركت القيادة السياسية الواعية لهذا البلد أن تنويع مصادر الدخل القومي لدولة قطر لا يمكن أن يتحقق بمجرد الإنخراط في مشروعات تقوم أساساً على إنتاج وتصدير الغاز أو تصنيعه وتصدير المنتجات للخارج. فهذه المشروعات مهما تعاظمت لا بد وأن تصل إلى نهاية محتومة ذات يوم عندما تنضب أبار النفط ومن بعدها الغاز، أوعندما تتهالك مجمعات البتروكيماويات الضخمة بانقضاء عمرها الإفتراضي أو قبل ذلك عندما تفقد عنصر السبق فيما تستخدمه من تقنيات. وحتى لو تحولت هذه الثروة إلى استثمارات مالية ضخمة داخل قطر وخارجها، فإنه لا توجد ضمانة حقيقية لاستمرار تلك الاستثمارات وأنها قد تتعرض للتآكل والضياع إذا لم تحميها عقول متعلمة وفاهمة للغة العصر.

ومن هنا كان لا بد من البحث عن مصادر بديلة للدخل لا تنفد أبداً، فكان الهدف الذي خططت له الدولة جيداً وهو الاهتمام بالعنصر البشري، وتدريبه وتعليمه على أسس سليمة مهما كلف ذلك من أموال طائلة. ولقد تطلب الأمر في البداية ما يشبه الثورة على نظم التعليم السائدة فكان الإنتقال إلى أسلوب المدارس المستقلة بعد أن تم تجريب نموذج المدارس العلمية على نطاق ضيق. وكانت المرحلة الثانية في استقطاب نخبة من أعرق الجامعات في العالم في تخصصات بعينها لتشكل نواة لمدينة تعليمية عالية المستوى في قطر. وقد بدا للبعض في وقت ما أن ذلك قد يكون مكلفاً بأكثر من اللازم، وأن تكلفة الخريج الواحد لا يمكن استردادها بسهولة في ظل نظام جامد للرواتب والأجور.

إلا أن المفاجأة الكبرى بعد ذلك كانت في إقامة واحة البحث العلمي في قطر، وفي الدعوة للمؤتمر التأسيسي للعلماء العرب المغتربين، وهو ما كشف عن الجانب المستور في قصة السعي إلى الاستثمار في التعليم والمعرفة. فإذا كان الاستثمار في التعليم بمفرده أمر مكلف للغاية، فإن الإهتمام بالعلماء والإرتقاء بالبحث العلمي واستقطاب صفوة الخبرات والعقول العربية المهاجرة لكي تتنافس على البحث والتفكير والإبداع من أجل اختراع كل ما هو مفيد في مختلف العلوم، لهو الهدف النهائي لهذه الاستراتيجية الفذة. وبذلك يتكامل الشقان على أرض قطر؛ الأول إقامة نظام تعليمي متطور ينتهي بالطالب أو الطالبة المتفوقة إلى جامعات عريقة قادرة على صقل المواهب وشحنها بأحدث ما توصلت إليه العلوم في مجالات بعينها، ثم واحة متطورة للبحث العلمي مجهزة بكل ما يتطلبه البحث من معدات وأجهزة، يقوم عليها علماء مبدعون قادرون على التوجيه والنصح والإرشاد، ثم والأهم من كل ذلك مصادر تمويل ضخمة لتصنيع ما يتم اختراعه وتحويله إلى منتجات مفيد لهذه الأمة وللبشرية جمعاء.

وقد تكون البداية صعبة كأي بداية، ولكننا سنجح بالتأكيد كما نجحت قبلنا كل الأمم التي اهتمت بالعلم والتعليم والبحث العلمي. وبدلاً من الاعتماد على ثروات ناضبة في يوم من الأيام فإننا سنكون قد أنشأنا منجماً لا ينضب، بل هو كالشمس المتجددة. فكل اختراع يتم تسجيله لدواء أو لجهاز، سيتحول إلى مصدر دائم للدخل من كل الذين يحصلون على براءة الإختراع. وإذا كانت فوائض ايرادات الدولة من النفط والغاز سيتم استخدام جزء منها في هذه المرحلة لتمويل عمليات البحث العلمي وتكاليف التعليم الباهظة الثمن، فإن إيرادات المخترعات في مرحلة تالية ستكون أكثر من كافية لتغطية تلك التكاليف، ولكنها ستصبح بالتأكيد في مرحلة ثالثة مصدراً مهماً ونامياً للدخل.

إن ما دعت إليه صاحبة السمو الشيخة موزة بنت ناصر المسند من إقامة شراكة دائمة بين صندوق البحث العلمي بمؤسسة قطر للتربية والثقافة والعلوم، وبين العلماء العرب المغتربين لهو خطوة رائدة في الطريق الصحيح من أجل تسخير طاقات هذه الأمة لما فيه تقدمها ورقيها. وإذا كانت دروب الأمة الواحدة قد تفرقت بسبب الأهواء والسياسات المتصارعة فلعل هذه المبادرة الشجاعة والذكية تنجح في إقامة وحدة عربية ناجحة على قاعدة البحث العلمي المبدع والخلاق في قطر.