كيف تبدو صورة الاقتصاد القطري ونحن على أبواب سنة مالية جديدة؟ هل هي صورة متشائمة بما يبرر تلك الإجراءات التي يتم اتخاذها على عجل لضغط المصروفات أم أنها أقل تشاؤماً وتوحي باقتراب الخروج من عنق الزجاجة أو من ذلك النفق الضيق الذي انزلقنا فيه منذ انخفاض أسعار النفط بشدة في يناير 1998؟ وهل استنفذت الحكومة كل إجراءات وسبل تمويل عجز الموازنة العامة أم انه لا زالت هنالك طرق كثيرة يمكن اتباعها والاستفادة منها بدلاً من التركيز المفرط على ضغط المصروفات العامة بما يضر بحالة النشاط الاقتصادي في البلاد؟
إن الصورة العامة للاقتصاد الراهن في قطر تبعث على الحيرة فهي من ناحية تزخر بنشاط استثماري وعمراني كبير يتمثل في إقامة عدد كبير من المشروعات الصناعية لمنطقتي مسيعيد وراس لفان فضلاً عن نشاط واسع لقطاع العمران والمقاولات داخل مدينة الدوحة بما في ذلك إنشاء عدد من الفنادق الكبيرة والأسواق والمستشفيات الخاصة والمجمعات السكنية .. كذلك يعرف الجميع أن مصنع راس لفان (المرحلة الأولى) .. سيتم افتتاحه خلال الشهور القليلة القادمة ، ليرفع صادرات قطر من الغاز المسال إلى آسيا وبعض الدول الأخرى لما يزيد عن 8.5 مليون طن سنوياً وهو ما يعني زيادة حصيلة الدولة من إيرادات الغاز إلى أكثر من بليون دولار … وخلال عام 1999 ستقترب مشروعات تطوير الطاقات الإنتاجية لحقول النفط القطرية من ذروتها بعد سنوات من التجهيز والإعداد بمساعدة عدد من الشركات الأجنبية .
ورغم هذه الصورة المشرقة، فان البعض لا يرى إلا ما يحدثه انخفاض أسعار النفط من تأثيرات سلبية على واقع الاقتصاد القطري وهم يخشون على وجه الخصوص من حدوث المزيد من الانهيارات في أسعار النفط وما سيؤدى إليه ذلك من تفاقم في عجز الموازنة العامة للدولة ..
والحقيقة أن أسعار النفط غير مرشحة لمزيد من الانخفاض في عام 1999 بل إنها ستعود إلى الارتفاع في النصف الثاني من العام بحيث قد تصل إلى 13 دولاراً للبرميل مع نهايته وذلك للأسباب التالية :
أولاً : أن هنالك طلباً متزايداً على النفط في عام 1999 بحيث قد تصل الزيادة إلى نحو مليون برميل يومياً كما تشير بذلك أغلب التقديرات .
ثانياً : إن انخفاض أسعار النفط دون مستوى 10 دولارات للبرميل سوف يعجل بإغلاق المزيد من الآبار المنتجة عند مستويات تكلفة عالية في عدد من مناطق الإنتاج فى العالم .
ثالثاً : أن دول الأوبك المصدرة للنفط سوف تجتمع في مارس القادم وستكون مستعدة في حال استمرار انخفاض الأسعار لاتخاذ المزيد من الإجراءات التي تكفل عدم تدهور الأسعار.
رابعاً : أن المضاربين فى أسواق السلع العالمية سوف يصعب عليهم دفع الأسعار إلى مستويات أدنى في ظل المعطيات المشار إليها أعلاه ، وسيجدون أن المضاربة برفع الأسعار أكثر أماناً وأجدى لتحقيق أرباح مضمونة في الأجل القصير .
على ضوء ما تقدم نجد أن أسعار النفط غير مرشحة لمزيد من الانخفاض في عام 1999 وأنها ستعاود الارتفاع في النصف الثاني بحيث يكون السعر المتوسط ما بين 10 – 13 دولاراً للبرميل – وهذه التوقعات لا تنفي احتمال انخفاض السعر في الربع الثاني ( إبريل – يونيو ) عندما ينخفض الطلب موسمياً على النفط ولكن ذلك سيكون لفترة محدودة .
وعلى ذلك فان هنالك عدة عوامل إيجابية تعمل لصالح الميزانية العامة للدولة من بينها الزيادة في صادرات الغاز المسال وسوائل الغاز واستقرار أسعار النفط وعدم تدهورها والزيادة في الإيرادات الأخرى نتيجة ما تم اتخاذه من خطوات لرفع أسعار المنتجات البترولية ورسوم العلاج وغيرها وانخفاض المصروفات العامة بعد سلسلة من القرارات التي تم اتخاذها خلال الشهور الماضية لهذا الغرض .
ومع ذلك تظل هنالك حاجة ماسة لمزيد من الإجراءات لتأمين مبالغ إضافية للإنفاق العام ولابد من التحرك بهذا الخصوص في الاتجاهات التالية :
أولاً : العودة إلى سوق السندات الدولية لسحب مبلغ متوسط في حدود 500 مليون دولار ، وليس أكثر لضمان نجاح الاكتتاب في المبلغ ، ومثل هذا الإجراء ضروري في الوقت الراهن ولابد من اتخاذ التدابير اللازمة له في أسرع وقت ممكن .
ثانياً : الإسراع باتخاذ الترتيبات اللازمة لتنفيذ قانون الدين العام بما يسمح بإصدار سندات للتنمية وأذونات خزانة عامة داخل قطر في حدود 1000 مليون ريال كدفعة أولى .. كما لابد من تسوية مديونية الحكومة الداخلية تجاه بعض البنوك القطرية عن طريق إصدار سندات عامة وأذونات خزانة بما يساعد على تحسين وضع السيولة لدى هذه البنوك.
ثالثاً : المضي قدماً في تنفيذ مرحلة جديدة من مراحل برنامج الخصخصة بشرط تقييم تجربة كيوتل وما صاحبها من سلبيات انعكست بوضوح على أداء سعر السهم في سوق الدوحة للأوراق المالية خلال الشهرين الماضيين … وأقترح على وجه الخصوص ما يلي :
(1) أن لا تزيد قيمة الحصة المطروحة عن ألف مليون ريال .
(2) أن يتم اخذ حالة السيولة الراهنة في السوق عند تحديد علاوة الإصدار على السهم بحيث يكون سعر السهم اقل من قيمته الحقيقية ضماناً لتشجيع الإقبال على الشراء .
(3) أن تكون كل حقائق الشركة الخاضعة للتخصيص معلنة وواضحة قبل وقت كاف .
رابعاً : التفكير جدياً في إقرار ضريبة الدخل على الشركات الوطنية التي تمتعت بإعفاءات لفترات طويلة .
خامساً : التفكير جدياً في فرض المزيد من الضرائب على السلع الكمالية جداً بما يخدم هدف ترشيد نمط الإنفاق لدى الأسر إضافة إلى تحقيق إيرادات إضافية للدولة .
وأوضحت فيما تقدم معالجات الماضي للعجز في الميزانية – بالضغط على النفقات – لم تعد صالحة بالقدر الكافي ونحن ندخل في جانب من السنة الجديدة في قرن ميلادي جديد ونودع الألف الثانية للميلاد . ورغم التسليم بأهمية الابتعاد عن مظاهر الإسراف غير اللازمة في كل وقت وأوان ، إلا أن الضغط الزائد على المصروفات الأساسية والضرورية من قبيل تقصير ثوب النفقات بدون مراعاة للجوانب الاقتصادية والاعتبارات الإنسانية ، كل ذلك سوف تكون له عواقبه السيئة على الواقع الاقتصادي والاجتماعي .. وقد أشرت إلى أن إيرادات النفط الخام لم تعد وحدها العمود الفقري لإيرادات الميزانية العامة وإنما لحقت بها إيرادات هامة جداً من مكثفات وسوائل الغاز ومن صادرات الغاز المسال ومن أرباح الشركات الصناعية التي توسعت وتضاعف إنتاجها في السنوات الأخيرة .. وإلى جانب ذلك توقعت ألا يكون متوسط سعر النفط الخام في عام 1999/2000 اقل كثيراً مما كان عليه في السنة المالية 1998/1999 وبنيت ذلك على توقعات لمؤسسات متخصصة من بينها مركز دراسات الطاقة في لندن وذهبت تلك التوقعات إلى القول بأن الزيادة في الطلب على النفط في السنة الجديدة وتراجع إنتاج بعض الحقول العالية التكلفة في الولايات المتحدة ومناطق أخرى من العالم سوف تحافظ على أسعار النفط عند المستويات الراهنة على الأقل وأن أي تعاون من جانب المنتجين لخفض الإنتاج سوف يؤدى إلى رفع الأسعار إلى مستوى 13 دولاراً للبرميل في الربع الرابع من عام 1999 … وقد حفلت نشرة EIU الصادرة عن الايكونومست في عددها الأخير بمعلومات مفيدة عن وضع الاقتصاد القطري في السنة الجديدة 1999/2000 ومما ورد في تلك النشرة ما يلي :
· أن صادرات النفط الخام ستكون عند مستوى يزيد بمعدل 4 في المائة عن المستوى المناظر للسنة السابقة .
· أن صادرات الغاز الطبيعي المسال LNG ستزيد إلى نحو 5.4 مليون طن في عام 1999 ثم ترتفع إلى مستوى 9.4 مليون طن في عام 2000 ونحو 10.3 مليون طن في عام 2001 .
· إنه رغم انخفاض أسعار النفط فإن القيمة الكلية للصادرات سوف ترتفع قليلاً إلى مستوى 5.38 بليون دولار عام 1999 ثم إلى 6.2 بليون دولار عام 2000 .
· أن الناتج المحلي الإجمالي سينمو في عام 1999 بنسبة 4 بالمائة وذلك في الوقت الذي ستتراجع فيه الضغوط التضخمية .
هذه التوقعات المتفائلة الصادرة عن نشرة الايكونومست انتيليجانس والمأخوذة عن تقديرات صندوق النقد الدولي تدفعنا إلى التعامل بحذر مع قضية العجز قي الميزانية العامة للدولة والى عدم الإفراط في الضغط على بنود المصروفات بأكثر مما تحتمل ، وقد عرضت في المقال السابق لبعض الوسائل التي يمكن اتباعها لتأمين أموال إضافية في السنة الجديدة ومنها العودة إلى سوق السندات الدولية لسحب مبلغ متوسط في حدود 500 مليون دولار فقط واللجوء إلى تفعيل قانون السندات المحلية بما يساعد على تعديل مديونية الحكومة تجاه البنوك المحلية وللحصول على مبالغ إضافية للميزانية وكذلك الدعوة إلى مواصلة عملية الخصخصة من خلال طرح اسهم شركة عامة جديدة للاكتتاب العام مع مراعاة النتائج التي تمخضت عنها تجربة كيوتل في هذا المجال .
وأود أن أشير في هذا السياق إلى أن للدول العربية تجارب مهمة في مجال تمويل عجز الموازنات العامة في السنوات العشر الماضية ويمكن الاستفادة من هذه التجارب وخاصة فيما يتعلق بإصدار السندات المحلية وأذونات الخزانة أو في مجال إصدار السندات الدولية وقد صدر عن صندوق النقد العربي في عام 1998 كتاب مهم بعنوان سياسة وإدارة الدين العام في البلدان العربية والكتاب عبارة عن سلسلة بحوث ومناقشات لحلقات العمل التي نظمها معهد السياسات الاقتصادية التابع للصندوق في مارس 1998 ، ويشتمل الكتاب على تجارب عدد من الدول العربية في مجال إدارة المديونيات الداخلية والخارجية .
وقد تبين لي مما قرأت أن عدداً من الدول العربية وفي مقدمتها مصر والأردن ولبنان قد تمرست في موضوع إدارة الديون بحيث لم يعد الأمر مجرد محاولات مرتجلة لتغطية العجز في الموازنات العامة وإنما هنالك إدارات متخصصة في المصارف المركزية لتنظيم إدارة المديونيات بما يساعد على التقليل من الأعباء المالية وتعظيم المنفعة من مصادر التمويل المتاحة داخلياً وخارجياً .. وقد لفت انتباهي أن هناك اتجاهاً متزايداً لدى الدول العربية للاعتماد على المصادر الذاتية والمحلية بأكثر من اللجوء إلى الاقتراض الخارجي وفي حين تراجعت مديونية مصر الخارجية خلال العشر سنوات الماضية إلى نحو 28.4 بليون دولار أميركي حتى سبتمبر عام 1997 فإن إجمالي المديونية المحلية قد وصلت إلى نحو 170.8 بليون جنيه مصري عام 1997 وكان هذا الرقم في حدود 76 بليون جنيه فقط في عام 1990 .
ويدلنا هذا على أن هناك إمكانيات ضخمة يمكن اللجوء إليها محلياً لتغطية العجز في الميزانية العامة كما أن الوضع الاقتصادي في قطر لا يقل متانة عنه في لبنان الذي تمكن مؤخراً من إصدار سندات للخزينة العامة بعدة مئات من ملايين الدولارات في محاولة ليست الأولى من نوعها بل سبقتها محاولات أخرى عديدة .
خلاصة ما أود أن أشير إليه هو أن دولة قطر في وضع غير سيئ بشهادة صندوق النقد الدولي وان عام 1999/2000 قد يكون آخر السنوات الصعبة بإذنه تعالى وان علينا لذلك مواجه ما تبقى من تحديات بحكمة وتدبر بما لا يترك آثاراً سيئة في جسم الاقتصاد القطري قد يصعب تجاوزها في المستقبل وعلينا أن ننظر للمستقبل بتفاؤل وان نغير من طريقتنا في التعامل مع عجز الميزانية العامة.