سألني أكثر من صديق عن مغزى القرار الأميري الذي صدر في الأسبوع الماضي والقاضي بتفويض وزارة المالية صلاحية ترتيب إصدار سندات دين عام في السوق الدولية لصالح قطر بما قيمته 1500 مليون دولار وذلك بالتعاون مع بعض البنوك العالمية ، ودارت التساؤلات حول دوافع هذا القرار وضروراته ، ولماذا سوق السندات دون غيرها من أسواق المال ، ولما التوجه للسوق الدولية دون المحلية وما هي انعكاسات ذلك على الأوضاع المالية في قطر ؟
وقد شرحت للصديق أن قرار التوجه لسوق السندات الدولية كان متوقعا لدى الأوساط المالية العالمية وتناولته الصحف والنشرات المتخصصة منذ عدة شهور ، وهو قد جاء في هذا الوقت بالذات كمحصلة لثلاثة عوامل أساسية هي على التوالي :
أولاً : تراكم العجز السنوي في الميزانية العامة للدولة في الفترة التي أعقبت انهيار أسعار النفط في عام 1986 .. فعلى الرغم مما بذلته الحكومة – القطرية من جهود كبيرة لترشيد الإنفاق وضغط المصروفات ، إلا أنها درجت على تحقيق عجز في ميزانيتها العامة سنة بعد أخرى باستثناء سنوات قليلة .. وقد واجهت الحكومة هذا العجز بالسحب من أرصدتها المستثمرة في الخارج ثم بالاقتراض المباشر من البنوك المحلية ومن البنوك العالمية والإقليمية .. وطبقاً للبيانات المنشورة فان حجم تلك القروض قد تجاوز الاثنى عشر بليون ريال بخلاف القروض الخاصة بمشروعات الغاز والمشروعات الصناعية .
ثانياً : أن برامج التنمية الاقتصادية الطموحة التي انتهجتها الحكومة بتوجيهات من صاحب السمو الأمير منذ عام 1992 قد رتبت على الدولة التزامات مالية كبيرة ، وبالنظر إلى أن المردود المالي من مشروعات الغاز لن يبدأ بشكل مؤثر قبل عام 2000 فإن الفترة التي تسبق ذلك سوف تكون فترة صعبة حيث تزيد المدفوعات وتقل المقبوضات وتشير التقارير المتصلة بهذا الموضوع إلى أن حجم الفوائد المالية السنوية بات يشكل مع مطلع العام الحالي نحو 20 بالمائة من إيرادات الحكومة ، ناهيك عن المبالغ المالية المطلوبة لسداد أقساط القروض التي تم الحصول عليها في السنوات السابقة .
ثالثاً : أن انهيار أسعار النفط منذ بداية العام الحالي إلى مستوى 11 دولاراً للبرميل قد صعد من الضغوط التي تواجهها الحكومة .. وكان التحسن الطارئ في أسعار النفط خلال عامي 1996 و 1997 قد ساعد على التخفيف من الضغوط المالية خاصة مع ارتفاع إنتاج قطر من النفط إلى مستويات قياسية .. وبانخفاض أسعار النفط إلى ما يتراوح ما بين 11- 13 دولاراً للبرميل واحتمال حدوث المزيد من الانخفاض فان ذلك أوجب سرعة التحرك لخلق موارد مالية تكفي لتغطية الالتزامات القائمة والمستجدة خلال السنوات القليلة القادمة .
***
قال الصديق .. إذن نحن الآن دولة مدينة مثلنا في ذلك مثل بقية دول العام الثالث ؟
قلت نعم ولسنا وحدنا في ذلك فمعظم إن لم يكن كل الدول المنتجة والمصدرة للنفط قد مرت بظروف مماثلة . ولكن ما يميزنا عن دول العالم الثالث أنها دول تمرست في موضوع عجز الموازنات العامة وهى قد مارست كل السبل الممكنة والمتاحة لها لتغطية العجز سواء عن طريق إصدار سندات الدين العام وسندات التنمية أو بالاقتراض من البنوك وصناديق التنمية أو بالحصول على مساعدات وهبات من الدول الغنية ومن المؤسسات المالية الدولية .. وفوق ذلك فإن لدى هذه الدول أنظمة ضريبية فعالة توفر للخزانة العامة جانباً هاماً من إيراداتها .. أما في قطر وبعض الدول المنتجة والمصدرة للنفط فإن الإيرادات الضريبية لا تشكل إلا جانباً محدوداً جدا من إيرادات الدولة . ومعظم الخدمات الأساسية تقدم بالمجان أو بأسعار رمزية .. وحتى عهد قريب كانت قطر ودول الأوبك تحقق فائضاً مهماً في ميزانياتها السنوية وحتى عندما تلاشت هذه الفوائض وتحولت الميزانيات إلى حالة العجز فان هذه الدول قد مالت على مدخراتها واستثماراتها أو هي لجأت إلى الاقتراض من البنوك المحلية ، وظلت على هذا الحال لسنوات قبل أن تبدأ في ممارسة الاقتراض من البنوك العالمية .
وخلال الفترة من عام 1994 وحتى نهاية 1997 حصلت دولة قطر على مئات الملايين من الدولارات من خلال قروض مجمعة SYNDICATED LOANS وقادت هذه القروض وإدارتها بنوك إقليمية وعالمية معروفة بالتعاون مع بنوك قطرية وفي مقدمتها بنك قطر الوطني .. ولكن القروض البنكية لم تكن هي الحل الأمثل في مواجهة التزامات مالية ضخمة وعجوزات لم تعد طارئة بل أصبحت مزمنة خاصة أن القروض يتم سدادها بعد فترة سماح قصيرة علي أقساط قد تكون سنوية أو نصف سنوية .. ومن هنا كان لابد من التفكير في بدائل أخرى .. وكان من بين هذه البدائل ما يلي :
(1) بيع جزء من شركات القطاع العام للقطاع الخاص ضمن ما يعرف ببرنامج لتخصيص هذه الشركات أو خصخصتها وكما اتضح في ندوة الخصخصة التي نظمتها غرفة تجارة قطر في إبريل 1996 ، فإنه كانت هنالك آراء تؤيد وأخرى تعارض هذا الاتجاه ، ولكن الأمر انتهى لصالح تنفيذ الخصخصة في عدد من الشركات في وقت لاحق من هذا العام كما صرح بذلك عدد من المسؤولين مؤخراً ..
(2) إصدار سندات الدين العام بالريال القطري عن طريق مصرف قطر المركزي ، وقد كان مثل هذا الأمر بحاجة إلى ترتيبات قانونية وتنظيميه ، وأحسب أن المصرف قد قام بإجراء ما يلزم بهذا الخصوص بحيث سيكون بالإمكان إصدار مثل هذه السندات في المستقبل القريب عندما يكون وضع السيولة في الدخل مناسباً لهذه الخطوة .
(3) إصدار سندات دين عام بالدولار عن طريق بنوك متخصصة في السوق الدولية ، وقد رجحت كفة هذا البديل ليكون أول ما يتم اللجوء إليه في عام 1998 ، وفي تقديري أن هذا قد حدث لما يتمتع به هذا الخيار من مميزات نذكر منها :
(1) أن السوق الدولية للسندات سوق واسعة ويمكن من خلالها الحصول على مبالغ كبيرة في وقت قصير وذلك بعكس البدائل الأخرى .
(2) أن الآجال الطويلة للسندات والتي تزيد عن 5 سنوات تعطي الفرصة للحكومة لتجاوز المرحلة الراهنة بكل اختناقاتها الصعبة .
(3) أن فائدة السندات تكون اقل من فائدة القروض المصرفية المباشرة .
(4) أن ما تتمتع به قطر من احتياطيات ضخمة في مجال الغاز وسمعتها الجيدة في الأوساط العالمية كمقترض يوفر لها فرصة جيدة لتغطية ما ستصدره من سندات بالكامل ..
وقد شجع على اللجوء إلى هذا الخيار نجاح المؤسسة العامة القطرية للبترول في الحصول على تمويل لمشروع رأس غاز عن طريق إصدار سندات باسم الشركة بقيمة 1.2 بليون دولار . وقد تم تغطية هذا – الإصدار في عام 1997 بمساعدة مؤسسة جولدمان ساكس وبنك كريدت سويس بشروط جيدة لصالح رأس غاز ، مما جعل الصفقة مضرب المثل في الأوساط المالية العالمية . وقد لحقت حكومة عمان بشركة راس غاز وأصدرت سندات بالدولار في السوق الدولية بمساعدة بنك جي بي مورجان .
وهكذا نجد أن الظروف كانت مواتية جداً في بداية عام 1998 وتدفع كلها باتجاه البحث في إصدار سندات دين عام بالدولار لصالح حكومة قطر .. وخلال الشهور الماضية تم دراسة الموضوع بشكل تفصيلي مع البنوك العالمية ذات الخبرة في هذا المجال وخاصة بنك كريدت سويس وبنك جي بي مورجان. وانتهى الأمر بصدور قانون عن حضرة صاحب السمو الأمير يجيز لوزارة المالية والاقتصاد والتجارة اتخاذ ما يلزم نحو تنفيذ الصادرات بالتعاون مع البنوك الأجنبية المعنية .
قال الصديق وما تأثير هذا الإصدار على الأوضاع المالية في داخل قطر ؟ .. قلت إن لذلك تأثيرات إيجابية هامة في مقدمتها :
(1) السماح للحكومة بسداد ما عليها من التزامات دونما الحاجة إلى اتخاذ مزيد من إجراءات التقشف التي قد تضر بالنشاط الاقتصادي المحلي أو بمشروعات التنمية الاقتصادية والاجتماعية .
(2) ضمان استقرار سعر صرف الريال القطري .
(3) عدم الاستعجال في القيام بعمليات خصخصة الشركات المحلية بحيث تتم هذه العمليات بما يحقق أهدافاً تنموية أخرى غير مالية ربما سيراعي خصوصية الوضع القطري .
(4) عدم اللجوء إلى الاقتراض من النظام المصرفي القطري وهو ما قد يزيد من التشوهات الحالية في هيكل الائتمان فيما لو حدث بالفعل .