كان من خلاصة ما عرضته في الحلقة الأولى ان الله سبحانه وتعالى قد تدرج في تحريم الربا الذي استشرى في المجتمع الجاهلي، وانه قد مهد للتحريم القطعي بأيات تحض على الانفاق والتصدق وايتاء الزكاة باعتبارها البديل الشرعي للربا. وبعد ذلك شرع الله لعباده التداين وافراد لذلك آية هي الاطول بين ايات تحريم الربا مباشرة مع ما في ذلك من معان ودلالات ..وفي الحلقة الثانية اشرت الى ان حاجة المجتمع للتداين تزيد كثيرا عما يمكن ان تغطيه مصارف الزكاة والصدقة وان البنوك التجارية قامت باقراض المال اللازم للمجتمع مقابل فوائد مالية تشكل في نظر أصحاب البنوك ضرورة تمليها متطلبات العمل المصرفي .
وفي الحلقة الثانية ايضا تناولت موضوع المرابحة في البنوك الإسلامية باعتباره البديل لنظام الإقراض في البنوك التجارية مع بيان اختلافهما في الشكل فقط واتفاقهما في الجوهر باعتبار ان المرابحة هي تمويل لعمليات الشراء وعائدها ليس ربحا بالمعنى الاقتصادي للربح .
وفي الحلقة الثالثة بدأت بالإجابة على التساؤل المطروح عما اذا كانت الفوائد البنكية حرام ام حلال؟. وبدأت بالبحث في المفهوم اللغوي للربا من آيات القران الكريم والسنة النبوية وتوصلت الى ان الربا لغة ليس هو الزيادة البسيطة وانما هو الضعف وقد يقول قائل لماذا نبحث في هذا الموضوع وقد انتهت المجامع الفقهية الى تحريم الفوائد البنكية ؟ والإجابة على السؤال أن الموقف من هذه القضية لم يصل قط الى مرتبة إجماع الأمة وان كان يعتبر اجتهادا جماعيا .. وقد قال بذلك كثيرون من بينهم المفكر الإسلامي المعروف الدكتور محمد عمارة ( الأهرام 22/9/1989) .. وهنالك الكثير من العلماء والفقهاء الذين اقروا بجواز الفوائد البنكية او ما على شاكلتها كفوائد صندوق التوفير وشهادات الاستثمار وكان في مقدمه هؤلاء فضيلة الشيخ الدكتور محمود شلتوت شيخ الازهر الاسبق في كتابه الفتاوي (ص323) حيث قال بان فوائد صندوق توفير البريد حلال .. وفي وقت لاحق افتى الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الازهر بجواز التعامل في شهادات الاستثمار .. وفي عام 1976 اقرت لجنة البحوث الفقهية بمجمع البحوث الاسلامية بالقاهرة بجواز شهادات الاستثمار وفوائدها (انظر الاهرام 8/9/1989 والراية 30/9/1989م)
وفي عام 1982 طرح الدكتور عبد المنعم النمر وزير الاوقاف المصري الاسبق قضية الفوائد للاجتهاد على صفحات الاهرام وبعد سنوات توصل الدكتور محمد سيد طنطاوي مفتي مصر السابق وشيخ الازهر الحالي الى جواز الفوائد البنكية وقال بعد دراسة مستفيضة للموضوع انة لا يوجد في القران والسنة ما يمكن ان يعتد به لتحريم العائد مقدما وكان ذلك في عام 1989م . وقد ايد المفتي في ذلك العديد من العلماء من بينهم الشيخ الغزالي ود عبد الله المشد والدكتور احمد شلبي واخرون ( انظر الاهرام 21/9/1989م ) .
وفي عام 1992م قال الشيخ الغزالي في الدوحة : ان ما يقع مع البنوك هو عقد مضاربة، وان كان شرطا مرفوضاً لدى الفقهاء فان هذا هذا الشرط لا تأباه معاملات شرعية اخرى مثل ايجار الارض بمال محدد. وقال ايضا ان البحث
مفتوح لوجهات نظر اخرى ، ولم يغلق عند الفكر الذي يقضي بتحريم المعاملات البنكية ..
هذا الاستعراض السريع لاراء هؤلاء العلماء يبين انة لا يوجد اجتماع حول القضية المثارة ومما يعزز ذلك القول ان واقع الحال في البلاد العربية والإسلامية يشير الى قبول واسع للبنوك التجارية في تلك البلاد رغم كل ما صدر من فتاوى بتحريم التعامل معها، ولا تكاد تجد بلدا واحدا يخلوا من عشرات البنوك والفروع او من الاف المتعاملين معها او المالكين لأسهمها ويصل العدد في مجموع البلدان العربية بمفردها الى عشرات الملايين.
ولكوني من أهل الاختصاص في موضوع الاقتصاد فإنني وجدت باب الاجتهاد مفتوحا في مسألة الفوائد البنكية فدرستها من جوانبها اللغوية والفقهية والاقتصادية وكان لي فيما انتهى اليه السابقون خير معين وسند وقد عرضت في المقالات السابقة جانبا مما توصلت إليه وأواصل البحث اليوم في الجانب الفقهي وقد كان مما قاله الفقهاء القائلون بتحريم الفوائد البنكية ما يلي :
1. أن في قول الله تعالى وذروا ما بقي من الربا دلاله على تحريم الزيادة البسيطة باعتبار ان ما بقي تشير الى الشئ القليل .
2. ان في قول الله تعالى فإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم دلالة على عدم جواز أخذ أي زيادة على رأس المال.
3. الاستناد الى حديث البيوع الذهب بالذهب والفضة بالفضة .. الى قول الرسول فمن زاد او استزاد فقد أربي .. في فهم ان الزيادة على الاصل حرام.
4. الاستناد الى الأحاديث النبوية المتصلة بموضوع المزارعة والمساقاة في استنباط عدم جواز اشتراط جزء معين من الربح وبالتالي عدم جواز تحديد سعر الفائدة مقدما.
5. الاستناد الى القاعدة الفقهية التي تقول بان كل قرض جر منفعة فهو ربا .
ان هذه التبريرات لها وجاهتها ويتبناها جمع كبير من الفقهاء والمسلمين ولكنني مع ذلك أري فيها رأيا مختلفا قد يحتمل الصواب واقدمه على النحو التالي .
تقول كتب التفسير ان المؤمنين قد توقفوا عن التعامل بالربا بعد نزول الآية 275 من سورة البقرة.. ولكن نفرا من ثقيف وهم من اهل الطائف قد دخلوا الاسلام بعد فتح مكة وكان لهم دين على بني المغيرة من مخزوم .. ولم يتوقفوا عن اكل الربا فاشتكى عليهم بنو المغيرة الى سيد مكة فرفع هذا الامر الى الرسول الكريم صلوات الله عليه فنزلت الأية 278 يا ايها الذين امنوا ذروا ما بقى من الربا ان كنتم مؤمنين ومن هنا نفهم ان ذروا ما بقي تخص حالات معينة كانت لا تزال تتعامل بالربا ( رغم ان مفهوم الاية يتسع لكل الحالات المرابين بعد ذلك) وبالتالي فان الاستناد الى ذروا ما بقي باعتبارها دالة على تحريم الزيادة البسيطة امر غير مؤكد لمخالفة ذلك لاسباب نزول الآية .
ثم يبين الله في الاية التالية كيفية الخروج من الربا لمن تاب بقوله فان تبتم فلكم رؤوس اموالكم لا تظلمون ولاتظلمون، ذلك ان تحريم الربا فقط دون بيان الخطوة التالية يجعل المرابين في حيرة من امرهم فماذا هم فاعلون ؟
ايعيدون ما اكلوه من ربا فاحش وهل باستطاعتهم حساب ذلك؟
ام يقطعون العلاقة مع المدينين فلا يأخذون منهم ولا يعطونهم .
فجاءت الوصفة الآلهية : لكم رؤوس اموالكم. ومرة اخرى فان هذا الحكم هو بيان الطريق لمن اراد ان يتوب وله معاملات مالية متشابكة معقدة ولو كان المقصود بالاية هو تحريم تقاضي أي زيادة على رأس المال لقال المولى عز وجل لا تزيدون ولا تنقصون بدلا من لا تظلمون ولا تظلمون.
واما الاستناد الى حديث البيوع في تحريم الفائدة فلا يمكن الركون اليه بشكل قوى لاعتبارات نذكر منها :
أ) ان ربا البيوع لم يثبت الا بالاحاديث الواردة فيه وهي احاديث لا تثبت قطعيا ويقينا كما قال بذلك الشيخ محمد ابو زهرة في كتاب خاتم النبيين صفحة 1104
ب) ان من الصحابة الثقات من لم يسمع بهذا الحديث من امثال ابن عباس واسامة بن زيد وعبد الله بن الزبير وزيد بن الارقم وسعيد بن جبير ( انظر كتاب تحريم الربا للشيخ محمد ابو زهرة ) وانظر كذلك صحيح مسلم الجزء الثالث الاحاديث 101 و 102 و 104 وكلها تؤكد قول النبي صلوات الله وسلامه عليه لا ربا الا في النسيئة .. أي في الأجل.
ت) انه لو سلمنا بقبول هذا الحديث فانه كما يقول الشيخ ابو زهرة وغيره قد جاء لمنع الاحتكار وتنظيم امور التجارة والتبادل السلعي .
ث) ان القول في اخر الحديث .. من زاد او استزاد فقد اربي لا يجب ان يفهم الا في موضوع التجارة بدليل ان هناك احاديث تتصل بموضوع القروض وحث فيها الرسول الكريم على القضاء والزيادة انظر في ذلك حديث جابر بن عبد الله:( كان لي على رسول الله حق فقضاني وزادني)، وفي حديث ابي رافع ان النبي صلي الله عليه وسلم قال : (ان خيركم احسنكم قضاء) انظر ذلك في كتاب فقه السنة للشيخ سيد سابق.
ثم ان الاستناد الى احاديث المساقاة والمزارعة لاستنباط قواعد تتعلق بعدم جواز اشتراط تحديد الفائدة مقدما امر لا يمكن الاعتداد به ايضا .. ومنطق ذلك ان الله ارحم بعباده من ان يتركهم يقعون في معصية الربا بدون ان يوضح لهم المقصود بالمعنى في القران الكريم او ان يترك لرسوله بيان ذلك بوضوح ولكن الاحاديث المباشرة عن الربا قد أكدت تحريمه دون أن تفصله او تضيف عليه سواء في ذلك ما ورد في حجة الوداع او حديث لعن الله اكل الربا وموكله .. الخ.
وقد اولى الله تعالى المحرمات عناية خاصة في القران الكريم بحيث يلحظ المتدبر لايات الله تحديدا دقيقا للمحرمات او تكرار ملحوظا في الفاظها ومعانيها، وفي معظم ايات التحريم يجد القارئ تنبيها واضحا من المولى عز وجل بأن تلك حدود الله فلا تقربوها ومن هنا نفهم ان الله ورسوله قد حرم الربا المعروف في الجاهلية ولم يكن الامر بحاجة الى بيان وتفصيل وان ذلك الربا المضاعف كان فيه ظلم شديد واستغلال لحاجات الناس وقد قال الشيخ ابن تيمية في كتاب الفتاوي الكبرى الجزء الثالث ص 416 بأن الربا يفعله المحتاج فالموسر لا يأخذ الفا حالة بالف ومائتين مؤجلة وقال اخرون بأن فوائد البنوك وارباح شهادات الاستثمار لا تؤدي الى ما يؤدي اليه الربا من قطع صلة القربي بين الناس ولا تتنافى مع الاحسان
والمواساة وليس فيها تسلط على الفقراء وليس فيها تحجر قلب وانتهاز فرصة وهي علة تحريم الربا.