موقف البنوك التجارية والاسلامية من موضوع الاقراض(3-5)

كان من خلاصة ما عرضته في المقالين السابقين ما يلي :-
1. ان الله سبحانه وتعالى قد تدرج في تحريم الربا الذي استشرى في المجتمع الجاهلي بحيث ان ذلك قد تم على فترة تزيد على اثنتي عشرة سنة – هي المدة الزمنية بين اول ايات التنفير منه في سورة الروم المكية – وايات التحريم القطعي في اواخر سورة البقرة – وقد مهد الله للتحريم القطعي بأيات تحض على الانفاق والتصدق وايتاء الزكاة باعتبارها جميعا البديل الشرعي للربا .
2. ان الله تعالى قد شرع التداين بين المؤمنين وأفرد آية هي الاطول بين ايات القران الكريم مع كونها قد تلت ايات تحريم الربا مباشرة مع مافي ذلك من معان ودلالات.
3. ان حاجة المجتمع للتداين تزيد كثيرا عما يمكن ان تغطيه مصارف الزكاة والصدقة وان اجمالي القروض والتسهيلات التي يحتاجها المجتمع القطري في الوقت الراهن (أي في عام 1997) على سبيل المثال تزيد على 23 بليون ريال ..
4. ان البنوك التجارية قد قامت بدور مهم في اقراض المال اللازم للمجتمع مقابل فوائد مالية محدودة تشكل في نظر اصحاب البنوك ضرورة تمليها متطلبات العمل المصرفي من مرتبات وايجارات وخدمات وفوائد للمودعين وارباح للمساهمين .
5. ان عدم قدرة البعض على الاقتراض من البنوك قد اضطرهم الى الوقوع في حبائل المضاربين الموجودين في كل المجتمعات وفي كل الاوقات بشكل خفي وغير معلن.
6. ان نظام المرابحة في البنوك الاسلامية هو البديل لنظام الاقراض في البنوك التجارية ولكنه يختلف عنه في الشكل فقط ويتفق معه في الجوهر باعتباره تمويلا لعمليات الشراء وعائده ليس ربحا بالمعنى الاقتصادي للربح.
7. انه اذا كان المجتمع بحاجة ماسة للتداين والاقتراض .. وانه اذا كان الله قد شرع لعباده ذلك، وانه اذا كان نظام المرابحة لا يختلف في جوهره عن نظام الاقراض لدى البنوك التجارية، فان السؤال الذي يطرح نفسه عندئذ هو هل الفائدة البنكية حرام ام حلال ؟
8. انني قد بحثت في هذا الموضوع عام 1992م وتوصلت الى نتائج مهمة وافق عليها في حينه عدد كبير من العلماء والباحثين اخص منهم بالذكر فضيلة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله وشيخ الجامع الازهر محمد سيد طنطاوي والشيخ كامل زغموت والدكتور يوسف عبيدان عميد كلية الاقتصاد جامعة قطر وآخرون .
قال الشيخ : محمد الغزالي في تقديمه للبحث المذكور : هذا بحث جديد في موضوعه واستدلاله وارى انه جدير بالنظر والبحث وان كان رأيي ان ما يقع مع البنوك هو عقد مضاربة – واذا كان تضمن شرطا مرفوضا لدى الفقهاء – فان هذا الشرط لا تأباه معاملات شرعية اخرى مثل ايجار الارض بمال محدد ومثل تضمين الصناع . وايا ما كان الامر فالبحث مفتوح لوجهات نظر اخرى ولم يغلق عند الفكر الذي يقضي بتحريم المعاملات البنكية في هذا المجال ..
وقد تناولت موضوع الفوائد البنكية في البحث المذكور من زوايا مختلفة منها ما هو لغوي ومنها ما هو فقهي ومنها ما هو اقتصادي وذلك حتى تتكامل الرؤى مع بعضها البعض وصولا الى فهم دقيق لهذه المسالة .. وكان ما استرعى انتباهي ان القائلين بتحريم تلك الفوائد لا يقفون طويلا عند شرح العلاقة بينها وبين الربا وانما هم يعتبرون هذه العلاقة قائمة وموجودة وينطلقون من ذلك الى التأكيد بحرمه الفوائد حرمة ثابتة بنص قطعي لا سبيل معه الى الاجتهاد. والحقيقة انه لا خلاف على الاطلاق حول تحريم الربا كما عناه القران الكريم او وفق ما اشارت اليه الاحاديث النبوية الشريفة .. وانما الخلاف ناتج على مد هذا التحريم ليشمل الفوائد البنكية المعاصرة..
وقد اشتمل البحث المشار اليه اعلاه على دراسة للموضوع من جوانبه اللغوية والفقهية والاقتصادية، وساعرض لهذه الموضوعات في هذا المقال والمقالات التالية تباعا..
وابدأ بالمفهوم اللغوي للربا.. وهو امر بالغ الدلالة في تحديد ما اذا كانت الفوائد المصرفية من الربا ام لا .. فالمفروض اننا امة عربية نزل القرآن بلسانها ميسرا ومن ثم فاننا اقدر من غيرنا من الامم على فهم ما نزل به القرآن من معان والفاظ فما بالك والموضوع الذي نتناوله امر معلوم في زمن التنزيل وعليه شواهد ودلائل كثيرة ..وفضلا عن ذلك فان كون الربا من المحرمات قد وفر له تحديدا دقيقا في مدلولاته اللفظية بحيث جاء واضحا لا لبس فيه ولا غموض .
ولعمري ان المعاجم اللغوية قد اوقعت الباحثين والمفسرين في خطأ جوهري عندما فسرت كلمة الربا بلفظ الزيادة فقط .. ولقد ورد لفظ الزيادة في القرآن الكريم نحوا من واحد وستين مرة بتصريفاته المختلفة ولو كان الربا والزيادة لفظين مترادفين لاشار الله الى ذلك بوضوح وبدون مواربة كعهدنا به دائما في تفسير القرآن الكريم بالقرآن .. ونحن معشر العرب نقول في اللغة زاد الشيء اذا ارتفعت قيمته بشكل محدود مثل خمسة بالمائة وعشرة بالمائة وعشرون بالمائة .. وعندما تصل الزيادة الى الضعف او اكثر نقول تضاعف مرة او مرتين او زاد الى الضعف او الضعفين .. أو اضعافا مضاعفة. وفي الايات التالية نلاحظ انه عندما تكون الزيادة محدودة فإن المولى عز وجل يستخدم كلمة في التعبير عن ذلك اما اذا كان الموقف يتطلب زيادة كبيرة جدا تصل الى الضعف او اكثر فانه سبحانه وتعالى يستخدم كلمة المضاعفة. وفي ايات واحاديث تالية سنبرهن على ان الربا يقترن بلفظ المضاعفة وليس الزيادة فقط .. ونبدأ بالمجموعة الأولى من الايات التي تفرق بين لفظ الزيادة والمضاعفة..
1. في سورة الكهف الأية (25) يقول الله تعالي : ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً التسعة هنا زيادة محدودة مقارنة بالثلاثمائة ولهذا استخدم القران لفظ الزيادة.
2. في سورة يوسف الاية 65 يقول الله تعالى:
و نمير اهلنا و نحفظ أخانا و نزداد كيل بعير ذلك كيل يسير هنا الزيادة تدل على مقدار كيل بعير واحد وهي زيادة محدودة مقارنة بالعدد الكلي عشرة.
3.في سورة الصافات الآية 147 في قصة يونس عليه السلام يقول الله تعالى:
وارسلناه الى مائة الف أو يزيدون والزيادة هنا قد تكون الفا او الفين باعتبار ان العدد دال على متغير السكان الذي يزداد مع الايام و لكنها تظل محدودة اذا ما قورنت بالأصل الذي هو مائة الف.
4.في سورة (ق)الاية 3 يقول المولى عز وجل:يوم نقول لجهنم هل امتلات ..وتقول هل من مزيد ، وتقول التفاسير في ذلك أنه لايبقى في يوم القيامة في جهنم موطئ قدم تنفيذاً لقسم المولى عز وجل في سورة السجدة بأن يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين.
وعندما يصل مفهوم الزيادة الى الضعف يبين الله تعالى ذلك بصورة واضحة كما في بقية الأمثلة.
5 سورة (ص) الآية 38 قال تعالى : قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار ..
6 سورة النساء الآية 40 وإن تك حسنة يضاعفها ويؤته من لدنه اجرا عظيما .
7 سورة الفرقان الآية 25 يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا.
8 سورة الاحزاب الآية 30 من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين
9 سورة البقرة .. الآية 261 والله يضاعف لمن يشاء
وخلاصة ما تشير اليه الامثلة ان لفظ الزيادة يختلف على لفظ المضاعفة وان كلا منهما يستخدم في الدلالة على ارتفاع القيمة ولكن الأول يستخدم في حالة الارتفاع المحدود والثاني يستخدم في حالات الارتفاع الكبير الذي التي تصل الى الضعف او اكثر .
وقد اقترن لفظ الربا في القرآن الكريم وفي الاحاديث النبوية الشريفة بمعنى المضاعفة سواء في ذلك الاقتران الضمني او الصريح والأمثلة التالية توضح صدق هذا الاستنتاج:
1. في الحديث عن الصدقة يقول الرسول الكريم (ص) صلوات الله عليه ان صدقة احدكم لتقع في يد الله فيربيها له كما يربي احدكم فلوه او فصيلة حتى يجئ يوم القيامة وان اللقمة لعلى قدر جبل احد هذا المعنى ينسجم مع الآية التي تقول المصدقين والمصدقات واقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم اجر كريم فاجر الصدقة هو ثواب مضاعف وبالتالي فان كلمة يربيها في الحديث بمعني يضاعفها.
2. وفي قصة الطعام الذي ازداد ببركة دعاء النبي عليه الصلاة والسلام عندما اكل منه نفر كثيرون وكان لا يكفي الا القليل فلا والله ما اخذنا من لقمة الا ربا من تحتها وكلمة ربا هنا لا تعني ان الطعام قد زاد فقط ولكنها تعني مضاعفته حتى يكفي العدد الكثير من الناس .
3. وفي سورة الحاقة الايتين 9و10 وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة فعصوا رسول ربهم فأخذهم اخذه رابية هل كلمة رابية هنا تعني زائدة كما تقول معاجم اللغة العربية .. بالطبع لا لأن الله تعالى انتقم من فرعون وجنوده انتقاما شديداً فأغرقهم عن بكرة ابيهم في حادثة رهيبة انشق فيها البحر طريقا ثم عاد بحرا ومن ثم فإن رابية بمعنى مضاعفة شديدة وليس زائدة فقط، ويصف الله تعالى نفس الموقف في سورة المزمل بقوله فأخذناه أخذاً وبيلا وفي سورة النازعات يقول عن نفس الحادثة ان في ذلك لعبرة لمن يخشى وذلك يؤكد ان رابية بمعنى مضاعفة .
4. وفي سورة الروم الاية 39 يربط المولى عز وجل بين الربا والمضاعفة في تصوير بليغ عندما يقول وما اتيتم من ربا ليربوا في اموال الناس فلا يربو عند الله وما اتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون.
والآية تقرر أن إيتاء الزكاة يكون على نقيض المراباه مع تساوي الاثنين في درجة المضاعفة فالمرابون تربو اموالهم في اموال الناس وعملهم هذا مكروها عند الله في حين ان المزكون يضاعف لهم الثواب اضعافا كثيرة عند الله استنادا الى ان الحسنة بعشرة امثالها .
5. وفي الاية 276 من سورة البقرة يقرر المولى عز وجل العلاقة بين الربا والمضاعفة بشكل واضح وصريح عندما يقول يمحق الله الربا ويربي الصدقات هنا يمحق بمعنى انقاص الشئ وابقاء القليل جدا منه مثل القمر عندما يصغر حتي يصبح محاقاً، فالمحاق نسبة صغيرة جدا من حجم القمر في تمامه وهو لكي يعود بدرا لا بد ان يتضاعف حجمه مرات عديدة حتى يكتمل وفي هذه الاية يمحق عكس يربي وبالتالي فان يربي بمعني يضاعف كذلك الربا عكس الصدقات وذلك يؤكد مفهوم المضاعفة للربا بإعتبار ان ثواب الصدقات مضاعف .
6. وفي الاية 130 من سورة ال عمران ياأيها الذين امنوا لا تأكلوا الربا اضعافا مضاعفة ويفهم من هذه الاية ان الربا في فترة نزول هذه الآية وهي السنة الثالثة من الهجرة كما هو واضح من سياق وصف معركة أُحد كان اضعافا مضاعفة وقد قال الاستاذ سيد قطب في ظلال القران ان الاضعاف المضاعفة وصف لواقع الحال في الجاهلية وايد الشيخ محمد ابو زهرة هذا المعنى في كتابه تحريم الربا وقال نقلا عن الامام ابن القيم ان المائة في ربا الجاهلية كانت تصير عدة الاف مؤلفة. والواضح هنا أن الربا الذي هو الضعف أصلاً قد زاد إلى أضعاف مضاعفة في فترة اشتداد المعارك بين المسلمين والكفار.