موقف البنوك التجارية والاسلامية من موضوع الاقراض (2-5)

عرضت في المقال السابق لمسألة التداين وموقف البنوك التجارية والإسلامية منها وقد مهدت لذلك بالحديث عن التدرج في تحريم الربا وكيف ان الله عز وجل قد اقتلعه من المجتمع الاسلامي بعد ان خلخله بأيات نفرت وكرهت ثم حرمت المضاعف منه ثم حرمه بشكل قاطع بعد ان مهد لذلك بايات أخرى تحت على الإنفاق وايتاء الزكاة وإخراج الصدقات باعتبارها البديل الشرعي للربا وقد استغرق ذلك الأمر مدة طويلة تزيد على اثنتي عشرة سنة او ما يعادل نصف المدة الى نزل بها الوحي ..وكأني بربا الجاهلية وقد استحال شجرة عتيقة ضربت جذورها في اعماق الارض فاستلزم اجتثاثها كل ذلك الوقت والجهد .. ولان الربا هو احد الجوانب العفنة في المعاملات المالية فان المولى عز وجل قد استأصله بمفرده وابقى على مشروعية التداين بين المؤمنين وافرد لذلك اية هي الاطول بين ايات القران الكريم جميعها واتبعها لآيات تحريم الربا مباشرة وفي ذلك تنبيه واضح للمؤمنين بعدم الانغلاق عن بعضهم البعض امعانا منهم في اجتناب كل ما قد يؤدي الى الربا من معاملات مالية هي في الاصل مشروعة.
وقد ظلت حاجة المسلمين الى التداين والاقتراض قائمة طيلة القرون التالية لصدر الاسلام وحتى الآن وكانت تلك الحاجة سببا في عودة ظهور المرابين في المجتمعات الاسلامية كلما ضعف الوازع الديني والخلقي وخبت روح التعاون بين الافراد والجماعات .
وقد اشرت في المقال السابق الى ان الحاجة الى التداين والى الاقتراض تقع في دائرة اوسع بكثير من الدائرة الضيقة التي تغطيها مصارف الزكاة والصدقة .. بل ان المجتمع في مجمله بحاجة الى اقتراض مبالغ طائلة لتسيير شئونه وتصريف أموره وتقدر جملة القروض والتسهيلات التى يحتاجها المجتمع القطري في الوقت الراهن على سبيل المثال بأكثر من 23 بليون ريال حسب بيانات المصرف المركزي .. ومن هنا جاء دور البنوك التجارية في توفير المال اللازم لاقراض افراد المجتمع وهيئاته نظير فوائد مالية تختلف نسبها من بلد الى اخر في نفس البلد بتغير الاحوال والظروف ووفقا لمستويات التضخم السائد.

وترى البنوك ان هذه الفوائد لازمة من لوازم عملها كى تستطيع دفع ما عليها من التزامات للموظفين وفوائد للمودعين وارباح للمساهمين ناهيك عن تكلفة الخدمات وضرائب الحكومات .. ويدرأ المسئولون في البنوك التجارية عن انفسهم شبهة الوقوع في الربا بالقول ان تلك الفوائد البسيطة ليست هي الربا المحرم في القرآن الكريم والسنة وان
وجود البنوك كان عاملا مهما في نهضة المجتمعات وتقدمها ..ومن لا يصدق ذلك عليه بمراجعة تاريخ الثورة الصناعية في أوروبا وتاريخ المنطقة الخليجية والعربية منذ منتصف الخمسينات من هذا القرن وحتى الآن ليكتشف ما للبنوك من اثر مباشر وهام فيما وصلنا اليه من حضارة مادية مذهلة.
وكباحث متخصص في الشئون الاقتصادية .. كان لي – ولا يزال- اهتمام بالغ بالبحث في مفهوم الربا وعلاقته بالفوائد المصرفية وقد وصلت في عام 1992م الى نتائج مهمة عرضتها في حينه على عدد كبير من العلماء الأفاضل والمهتمين .. وتفضل الشيخ محمد الغزالي رحمه الله بقراءتها في فندق الواحة بالدوحة وكتب عليها بخط يده هذا بحث جديد في موضوعه واستدلاله .. واري انه جدير بالنظر والاهتمام ..
كما اثني على البحث في رسالة خاصة الشيخ محمد سيد طنطاوي شيخ الازهر والشيخ كامل زغموت من قطر وعدد كبير من أساتذة جامعة قطر في مقدمتهم الدكتور يوسف عبيدان عميد كلية الاقتصاد، وعارضة اخرون مع امتناعهم عن الرد علية كتابة. وساعرض لهذا البحث في مقالات قادمة باذن الله تعالى واعود لمتابعة موضوع الاقراض من وجهة نظر البنوك الاسلامية واكرر ما يعرفة الجميع من رفض هذة البنوك لفكرة الاقراض مقابل فوائد مالية كما تفعل البنوك التجارية رغم ان تحصيل جزء محدود من اموال البنك لتقديم قروض ميسرة او حسنة لحالات معينة سنوياً امر ينسجم مع المفهوم الاسلامي لتلك
البنوك .. وقد وجدت البنوك الاسلامية في نظام المرابحة البديل الشرعي الذي يعينها على توظيف ( إقراض ) أموالها بعائد مضمون دون الاضطرار الى تقاضي فائدة صريحة. والأصل في بيع المرابحة هو استناده الى بعض الفتاوى التي تجيزه ومن ذلك قول الامام الشافعي اذا ارى الرجل الرجل السلعة فقال اشتري هذة واربحك فيها كذا فاشتراها فالشراء جائز، وبالطبع لم يسلم هذا النظام من انتقادت المنتقدين الذين راوا فية ثغرات عديدة منها:-

1. ان عقد المرابحة يتضمن بيع ما ليس عند البائع .
2. ان المالكية منعوا الالزام بالوعد في البيع .
3. انه بيع مال بمال والمبيع مرجأ.
4. أن العقد يتضمن تلفيقا غير جائز.
5. أن بعض البنوك لا تكمل إجراءات نقل الملكية من البائع الأصلي للبنك توفيراً للنفقات وخاصة في مجال العقارات.

وقد انبرى بعض الفقهاء للرد على هذه الشبهات وتفنيدها، ولكن ما يهمني في هذا المقام هو الإشارة إلى الملاحظات التالية:-
أولا:أن الكثير من الأفراد قد وجدوا في نظام المرابحة ضالتهم المنشودة للحصول على الأموال اللازمة لهم دون المجازفة بالاقتراض من البنوك التجارية التي تحمل في نظر المجتمع شبهة الربا، وقد روى لي احد الأشخاص انه اشترى سيارة بسعر 130 ألف ريال بتمويل من البنك الإسلامي و في وقت لاحق قام ببيع السيارة بعد فترة بسيطة كي يتحصل على مبلغ فوري يعينه على مصاريف زواجه وقد باع السيارة بخسارة نظير استعمالها لفترة محدودة و لكنة حقق ما يريد من العملية.
ثانيا:أن العائد الذي يحصل عليه البنك الإسلامي من المرابحة ليس ربحا بالمفهوم الاقتصادي للربح وانما هو عائد تمويل الصفقة بدليل أن هذا العائد يتوقف على معدل الفائدة السائد في البلد و على طول فترة السداد و مقدار الأقساط، و لا ننسى أن في هذه العمليات أي عمليات المرابحة يكون لدينا ثلاثة أطراف متعاقدة هم البائع الأصلي و البنك و المشتري الملتزم بالشراء قانونا و دور البنك هو التمويل و عائدة يحصل عليه مقابل ذلك فقط رغم إن العملية يتم تقسمها شكليا إلى عمليتين منفصلتين، ورغم هذا التقسيم فان هناك إطاراً واحداً يظل يجمع بينهما و يبقيهما في حالة تلازم لا انفصال بينهما .
و الحديث عن المخاطر التي يتعرض لها البنك من شراء السلعة قبل بيعها مبالغ فيه لان حدوث حريق في وكالة السيارات على سبيل المثال قبل استلام العميل للسيارة لن يضر البنك في شيء و يكون البائع الأصلي هو المسئول في كل الأحوال ناهيك عن الدور الذي تقوم به شركات التأمين بهذا الخصوص .
ثالثا: أن بيع المرابحة و أن اتفق في الشكل مع البيع الحلال الذي نص عليه القران الكريم إلا انه اختلف معه في الجوهر، و الإسلام دين جوهر و مضمون و لا يلتفت كثيرا إلى المظاهر و الشكليات، و عندما قال الله تعالى واحل الله البيع فانه قد قصد بذلك البيع الحقيقي الذي يتكبد فيه المقاول أو التاجر مشقة بناء أو إنتاج السلعة او استيرادها من بلاد أخرى و تخزينها و عرضها و صيانتها و ضمانها متحملا في ذلك كل مخاطر العمل في مراحله المختلفة و لهذا استحق البيع ما ينتج عن عنه من ربح حلال كان يصل في بعض الأوقات إلى أضعاف الثمن الأصلي له و إذا شئت التأكد من ذلك ارجع إلى قصة القافلة التجارية التي حضرت لعثمان بن عفان رضي الله عنه في وقت نقصت فيه البضاعة المماثلة من السوق فهرع التجار يعرضون على عثمان بيعها لهم بربح كبير يقدر بأضعاف ثمنها الأصلي و لما رفض رفعوا الثمن إلى تسعة أمثاله(أي 900بالمائة) و لكنه رحمه الله و رضوانه عليه وزعها على الفقراء و المساكين بدون ثمن طمعا في ثواب الله الذي يجزي الحسنة بعشرة أمثالها، ومن القصة نفهم شيئين :
1-أن أرباح التجارة كانت تصل الى أضعاف مضاعفة و رغم ذلك اقرها الله.
2-أن المرابين كانوا يحصلون على أضعاف مضاعفة أيضا مقابل رباهم، و عندما حرم الله الربا تساءلوا بنوع من التعجب إنما البيع مثل الربا فكان الرد الإلهي و احل الله البيع و حرم الربا.
رابعا :أن بيع المرابحة يوجب على المشتري الالتزام بدفع ربح البنك كاملا دون نقصان حتى لو توافر للمشتري المال اللازم بعد ذلك و رغب في السداد مبكرا دفعة واحدة و في يذلك غبن للمشتري و ظلم له و في المقابل نجد أن بعض عمليات المرابحة التي يوافق البنك على تمويلها بدون كفيل يحدث فيها مماطلة أو تأخير أو عجز عن السداد و يتحرج البنك في ذلك و يتعرض لمخاطر مالية إذا ما استشرى مثل هذا الأمر.
أن دور البنك الإسلامي لا يختلف في جوهره عن دور البنك التجاري فيما يتعلق بموضوع الاقتراض فكل منهما يقدم المال اللازم للمقترض لإعانته على قضاء حوائجه و لكن البنك التجاري يعطيه المال ليتصرف فيه على نحو ما يناسبه وفقا لمصلحته بينما يقيده البنك الإسلامي على نحو ما أشرنا.و البنك الإسلامي لا يستطيع بأي حال من الأحوال أن يكون بائعا متخصصا لكل أنواع السلع و المقاولات و سيظل دوره متخصصا مقتصرا في هذا المجال على التمويل باعتبار أن ذلك وظيفته الأساسية كبنك يجمع المدخرات و الودائع و يعيد توظيفها.
و بالطبع هناك وظائف أخرى للبنك الإسلامي في مجال المضاربات و الاستثمار و لكن لذلك قصة أخرى و لا تدخل ضمن حديثنا عن الاقتراض و الإقراض في البنوك التجارية و الإسلامية.