عندما امر الله سبحانه وتعالى في أواخر ما نزل من الوحي في سورة البقرة بتحريم الربا فانه لم يأت بهذا التحريم بصورة مفاجئة وانما مهد له بطريقتين مختلفتين الاولى مباشرة وتتعلق بالتنفير من الربا وبيان كراهيته له والثانية تتعلق بالترغيب في بديل الربا وهو الانفاق في سبيل الله والتصدق وايتاء الزكاة .
وبالنسبة للطريقة الأولى نجد ان المولى عز وجل قد بدأ التنفير من الربا في وقت مبكر وقبل ان يستقر الاسلام في دولة المدينة حيث ورد ذلك في الاية 39 من سورة الروم المكية التي تقول :
وما اتيتم من ربا ليربوا في اموال الناس فلا يربوا عند الله وما اتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون .
ثم جاءت بعد ذلك اشارة الى تحريم الربا على اليهود في سورة النساء الأية 161 التي تقول وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل.
وفي وقت لاحق نزلت الآية 130 من سورة آل عمران التي تحرم الربا في صورته المضاعفة اضعافا لما في ذلك من ظلم كبير لا يعقل ان يكون بين أخوة في عقيدة واحدة حيث تقول الاية : يا أيها الذين أمنوا لا تأكلوا الربا اضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون .
ثم مرت سنوات طويلة اخرى قبل ان تنزل آيات تحريم الربا القاطع وهي مجموعة من الايات في سورة البقرة بين الاية 275 والاية 281 وتنص الاية الاولى منها على حرمة الربا بقوله تعالى واحل الله البيع وحرم الربا وفي الايات التالية تأكيد لمعنى التحريم وبيان لكيفية الخروج من ورطة التعامل في الربا .
ويلاحظ مما تقدم ان هذه المجموعة من آيات التنفير قد تمت على فترات متباعدة تزيد علىاثني عشر عاما قبل ان ينزل التحريم القاطع للربا وذلك حتى يعى المؤمنون حقيقة الظلم الذي يرتكبونه في حق انفسهم واخوانهم وضرورة التخلي الطوعي عنه لما في ذلك من تعزيز لروابط الاخوة الاسلامية وتقوية لأواصر المحبة التي تجمعهم في مواجهة الكافرين.
وعندما بدا ان النفوس قد تهيأت لتقبل التحريم القاطع للربا فان الله سبحانه وتعالى قد عزز ذلك بتمهيد اخر سبق ايات التحريم مباشرة ، حيث اعلن في الآيات من 261 الى 274 من سورة البقرة عن البديل الشرعي الذي يرضاه الله لعباده المؤمنين وهو طريق الانفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء وايتاء الزكاة وكلها مصارف شرعية للمال تسد حاجة المحتاجين وتزيد من تلاحم المسلمين وتضامنهم وتساعد في نشر الاسلام وبناء دولته .
وفي الاية 276 من سورة البقرة وصل موضوع تحريم الربا الى ذروته في اية تعتبر من الاعجاز البلاغي للقرآن الكريم عندما جمع بين الأضداد في وقت واحد يمحق الله الربا ويربي الصدقات .. والله لا يحب كل كفار أثيم وهنا يمحق عكس يربي والربا عكس الصدقات .
ثم يصل الامر الى نهايته في الآيتين 278 و 279 وما بعدهما عندما يعلن الله الحرب على من يتعامل بالربا ، بعد كل ما تقدم من ايات تنفر وتحرم وتهدد بالمحق. والملاحظ أن التدرج في تحريم الربا قد جاء نتيجة حتمية لكون المرابين من أغنياء الكفار في معظمهم وبالتالي لم يكن من الممكن تحريم الربا الا باكتمال إنتشار الاسلام ودخول المقرضين والمقترضين فيه معا.ً وفي الأية التالية لآيات تحريم الربا وهي الاية 282- يعرض المولى عز وجل في واحدة من اطول ايات القرآن الكريم على الاطلاق – لأحكام الدًين وشروطه ومستلزماته وهو بهذا البيان الواضح الذي لا لبس فيه يؤكد للمؤمنين على ان تحريم الربا لا يعني بأي حال من الاحوال وقف التعامل الاقتصادي بين الافراد والجماعات وان هذا التعامل يجب ان يستمر لصالح المجتمع ونمائه وان تحريم الربا يمثل تطهيرا للمعاملات الاقتصادية من آفة عظيمة بين الناس .. ولا عجب ان نجد ان المجتمع العربي في الجاهلية كان مجتمعا ممزقا متفرقا تسوده الحروب والنزاعات .. وعندما زال الربا كان من السهل بعد ذلك توحيد الجزيرة العربية والانطلاق منها لنشر راية العدل في شتي بقاع الارض .
وعلى ذلك يقر الاسلام شرعية التداين بين المؤمنين ..فيقترض الشخص من فرد او مؤسسة او جماعة بشرط ان يكون ذلك التعامل مكتوبا ومدونا ومشهودا عليه حتى لا يكون الاقتراض بغير ذلك المنهج سببا في نشوب الخصومات والمنازعات وحتى لا يكون غياب الحقيقة طريقا لظلم طرف من الاطراف .
والآية على طولها لا تشير الى اية ضوابط فيما يتعلق بحقوق الدائن تجاه المدين نظير ما قدمه له من مال وهي فقط تترك للطرفين املاء موضوع المداينة وتفاصيلها وتحث المقترض على وجه الخصوص الوفاء بالدين والا يبخس منه شيئا .
وخلاصة ما تقدم ان الله سبحانه وتعالى قد أرسى في المجتمع الاسلامي علاقات التوادد والتراحم بتشجيعه الانفاق على الفقراء والمساكين وحثه على ايتاء الزكاة لمستحقيها وعلى الانفاق في سبيل الله وتحريمه للربا باعتباره مصدرا رئيسيا من مصادر الظلم واشعال نار الفتن والضغائن بين الناس .. ثم ان الله سبحانه وتعالى قد حرص على التأكيد بأن تحريم الربا لا يلغي حاجة الناس الى الاقتراض والتداين من بعضهم البعض سواء كان هذا الدين صغيرا او كبيرا .. ومثل هذا الامر ضروري لاستمرارية النشاط التجاري والاقتصادي في أي مجتمع وهو يقع في دائرة اوسع من دائره حاجة بعض الناس لأموال الزكاة والصدقات.
وفي عصرنا الحديث وفرت البنوك التجارية لبعض الناس – افرادا كانوا ام جماعات وشركات – إمكانية الاقتراض بضمان رواتبهم وكفلائهم او بضمانات عينية مختلفة وتم هذا الامر مقابل فوائد مالية سنوية يدفعها المقترض .. واعتبرت تلك البنوك ان هذه الفوائد نظير ما تقدمه للمستفيد من خدمة في الحصول على ما يحتاجه من مال للوفاء بالتزاماته .. وهي تعلل الامر بأن قدرتها على البقاء والاستمرار في عملها رهن بتحصيل تلك الفائدة باعتبار ان من تلك الفوائد وغيرها يدفع البنك تكاليف موظفيه وما يحتاجه من خدمات متعددة وما يدفعه لمودعيه من اموال لتشجيعهم على الاحتفاظ لديه بتلك الاموال.
ورأت البنوك الاسلامية في تلك الفوائد انها الربا بعينه يطل على الناس في القرن العشرين في ثوب جديد وبمشروعية القوانين ورضا الناس .. وعندما مارست تلك البنوك نشاطاتها في الربع الاخير من القرن العشرين فانها امتنعت تماما عن الاقراض وراحت تبحث عن برائل لتوظيف أموالها بما يعود على مودعيها بالربح فكانت المضاربات الشرعية والمرابحات وغيرها من الوسائل المالية التي رأت فيها بديلا شرعيا لما تقدمه البنوك التجارية الاخرى .
وسيكون لنا في مقال قادم تحليل لبعض تلك الوسائل المالية لمعرفة مدى انسجامها مع المنهج الاسلامي في التفكير .. ولكنني اقف هنا عند موضوع الاقتراض والتداين الذي شرعه الله عز وجل في اطول ايات القرأن الكريم واقول ان النظام المصرفي الحديث بشقيه التجاري والاسلامي لا يلبي كل احتياجات المجتمع الماسة للمال، فالبنوك التجارية كما ذكرنا تقرض لفئة معينة من الناس وللشركات بضمانات محددة والبنوك الاسلامية ترفض الاقراض المباشر وتعرض نماذج اخرى للتمويل ويتبقى عدد كبير من الناس لا يستطيعون الوصول الى هذه الفئة من البنوك او تلك وتشتد بهم الحاجة الى الاقتراض للوفاء بالتزمات طارئه فيلجأون الى المرابين وهم للاسف موجودون في كل المجتمعات .
ولقد ذهلت قبل ايام عندما روى لي شخص ما ان هناك من يقرض فئة من الناس بمعدل فائدة يزيد على مائة بالمائة وانه على وجه التحديد يقرض العشرة الاف ريال بفائدة تصل الى الف ريال شهريا .. ان غياب الوسائل المشروعة للاقراض بين الناس – وخاصة في الطبقات الدنيا من المجتمعات – والوافدة منها على وجه الخصوص يفتح المجال لانتشار الربا الحقيقي في المجتمعات الاسلامية وللحديث بقية ..