رسالة إلى صديق عما جرى في غزة

رسالة إلى صديق عما جرى في غزة

الأخ الدكتور عبد المنعم سعيد المحترم

مدير مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية

الأهرام

تحية طيبة وبعد،،،،

أكتب إليك راجياً أن تكون والأهل بخير وبصحة جيدة، وبعد فإنني أسعد كلما شاهدتك ‏على إحدى القنوات التلفزيونية ولكنني بالتأكيد أُصدم فيما أسمع منك هذه الأيام من ‏تحليلات تعرف في أعماقك أنها غير صحيحة وأنها ما صدرت عنك إلا لأنها تُرضي الحاكم ‏والحكومة. ولقد أدهشتني قراءتك الخاطئة للحقائق، فتعال يا أخي نراجع بعضاً مما قلته ‏للفضائية المصرية وغيرها لعلك تتذكر بعضاً من الحقائق التي يعرفها ملايين الناس ومن ‏أجلها خرجوا وتظاهروا في كل بقاع الدنيا:‏

حماس يا صديقي اختارها الشعب الفلسطيني بأغلبية ساحقة بعد أن ذاق الهوان على أيدي ‏الُسلطة، ولقد كانت الانتخابات نزيهة وصادقة وبإشراف دولي وفي ظل حكومة السلطة ‏التي راهنت على فوز فتح في الانتخابات عام 2006. كان عباس في سنته الأولى وبدون ‏شعبية بعد انتخابه عام 2005، ولكي يستطيع تمرير مخططات إسرائيل فإنه وافق على ‏إشراك حماس في الانتخابات وفي ظنه أنه سيأخذ منها أكثر مما يعطيها، وأنه في ظل أغلبية ‏متوقعة لفتح سوف يمرر ما يشاء باسم الديمقراطية. وجاءت النتائج مذهلة وتعكس رداً ‏طبيعياً للشعب على ممارسات السلطة القمعية، وعلى رفض الشعب للاستسلام والخضوع ‏لمخططات التهويد والاستيطان الذي استشرى في جسد فلسطين منذ ما بعد أوسلو.‏

وكان من الطبيعي أن ترفض إسرائيل وأمريكا نتائج الانتخابات وأن تمارس حصاراً ظالماً ‏على القطاع، وشارك رجال عباس في هذا الحصار بكل ما لديهم من أدوات، ولا أظن ‏أنك لا تعرف مخططات دايتون ومؤامرات دحلان وأنت الخبير الكبير بمركز الدراسات. ‏ثم كان لا بد أن تقوم حماس بما قامت به في يونيو 2007 لتطهير القطاع من الفاسدين ‏الأوغاد الذين كانوا يثيرون الفتن ويعملون جواسيس على شعبهم. ‏

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ونحن كعرب ‏قد خالفنا منهج الله عندما جنحنا للسلم دون أن يجنحوا له، ومن منطق الضعف ‏والاستسلام ، صالحت مصر إسرائيل وخرجت من الصراع لتترك إسرائيل تعربد في ‏المنطقة، فلم يكن عجباً أن تجتاح إسرائيل بيروت بعد شهور قليلة من رفع العلم المصري ‏في العريش عام 1982. ثم جنحت منظمة التحرير للسلم بعد أن تنازلت عن 78% من ‏أراضي فلسطين التاريخية لليهود، واعترفت بإسرائيل عام 1988، ولكنها لم تحصل على ‏الدولة الموعودة على إلـ 22% الباقية رغم مرور أكثر من 20 سنة على اعترافها ‏بإسرائيل. ‏

أنظر يا صديقي ما حل بالضفة تحت حكم عباس: المدن مستباحة يدخلها الجنود ‏الإسرائيليون متى شاءوا، والقرى(ب+ج) محتلة ومحاصرة بالمستوطنات، والقدس يزحف ‏عليها التهويد والاستيطان من كل جانب بما يفرض واقعاً جديداً كل يوم ، والمناطق ‏محاصرة بالحواجز(700 حاجز)، فضلاً عن الجدار العنصري البغيض، والأسرى في ‏السجون تجاوز عددهم 12 ألف ويزداد، وإسرائيل رغم كل التعهدات والخطط بما فيها ‏خطة الطريق لا تريد أن تتنازل عن شيء، فلا عودة للاجئين، ولا تنازل عن القدس، ولا ‏عودة لحدود 67، ولا إزالة للمستوطنات. بل أكثر من ذلك وفي ظل الدور البوليسي ‏والاستخباراتي الذي يقوم به رجال عباس في الضفة خدمة للأمن الإسرائيلي، فإن اليهود ‏يعيثون في الضفة فساداً، وأشير هنا إلى ما حدث قبل شهرين في الخليل وفي بعض القرى ‏أثنا موسم جني الزيتون من تعديات على أهلنا لجعلهم يرحلون عن وطنهم. وما كان ذلك ‏إلا بعد أن جرد عباس فصائل المقاومة من سلاحها في الضفة.‏

‏ والدول العربية الكبيرة يا صديقي راضية وموافقة على ما يجري، وتأمل أن تزول حماس ‏من الوجود حتى يكتمل مخطط ابتلاع فلسطين التاريخية، ولا غضاضة لديها من الاعتراف ‏بإسرائيل كدولة واحدة على كامل التراب، وأن يظل الفلسطينيون في الضفة في كنتونات ‏ممزقة ، فذلك أفضل للدول العربية من أن تقوم بجوارهم دولة ديمقراطية يحكمها إسلاميون ‏منتخبون من الشعب.‏

ومن هنا أحكمت مصر الحصار على غزة منذ عام 2007 حتى تركع حماس وتفشل، ‏وبذل عباس كل ما في وسعه لتعطيل الحياة المدنية من خلال إضرابات التعليم والصحة ‏وغيرها ولكنه لم ينجح لأن الناس قد رأت الفرق بين حكم العملاء السفلة وبين الشرفاء ‏الأطهار. بالمناسبة يتداول الناس بالبريد الإلكتروني مقارنة طريفة بالصور بين القائد محمود ‏الزهار وإبنيه الشهيدين، والعميل محمود عباس وولديه وهما من أصحاب الملايين ‏ويتساءلون من منهما أحق بقيادة فلسطين!‏

وعندما صمدت حماس في وجه الحصار والمؤامرات، كان لا بد من تصفية الحسابات وإنهاء ‏سلطتها بالقوة المسلحة، واختير لذلك وقت مناسب، ما بين انتهاء ولاية بوش، وقدوم ‏أوباما، وقبيل انتهاء ولاية عباس كرئيس منتخب. وكان للانتخابات الإسرائيلية القادمة ‏دور مهم في التحضير للحرب، فبعد هزيمة الجيش الإسرائيلي المذلة على يد المقاومة ‏اللبنانية ، وتدهور شعبية حزبي كاديما والعمل، كان لا بد من البحث عن نصر سريع يعيد ‏لباراك وليفني حظوظهما في النجاح في مواجهة نتنياهو.‏

‏ وكانت حماس مدركة لما يخطط لها، ورغبت مخلصة في تمديد التهدئة، ولكنهم( إسرائيل ‏ومصر وعباس) أقفلوا أمامها طريق الموافقة بشروط تعجيزية، فلم تجد الحركة بُداً من ‏الإصرار على خيار المقاومة. وقد ظن القوم أن إسرائيل قادرة على حسم المعركة في ‏غضون أيام قلائل، وظنوا أن الحصار الطويل وتململ الناس سوف يساعد المحتل على ‏دخول غزة منتصراً، فما كان نصيبهم إلا الخزي والعار والإنهزام بعد 22 يوم من الصمود ‏الأسطوري، الذي لا مثيل له في التاريخ. وكان لا بد أن تنتهي المهزلة بعد أن استنفدت ‏كل الوقت المحدد لها. فإسرائيل لم تدخر وسعاً في قصف غزة بكل أنواع الأسلحة المدمرة ‏والمحرمة دولياً وأشعلت حرب إبادة ضد الأطفال والنساء والشيوخ، وضد كل مقومات ‏الحياة في غزة، بما فيها المؤسسات الدولية. وعباس وفر الغطاء السياسي لهذا العدوان ‏باعتبار أنه الرئيس الشرعي المقبول للتفاوض مع إسرائيل وبأن عودته لغزة ستعيد الأمن ‏والاستقرار لها. وقامت مصر بالمطلوب منها في عدم الاعتراف بحماس كسلطة في غزة ‏وإحكام الحصار على القطاع بغلق معبر رفح، وبالسماح لإسرائيل باجتياح القطاع للقيام ‏بما عجز زلم عباس عن القيام به.‏

‏ ولم يتوقف الدور المصري عند هذا الحد، بل عمل على إفشال أي تحرك عربي في مواجهة ‏هذا العدوان ووظفت الدولة المصرية الكبيرة ثقلها ووزنها العربي، لمنع انعقاد القمة، ‏وحاولت قدر استطاعتها منع الشعب المصري العظيم من الخروج للتظاهر والتنديد بما ‏يجري، وظلت متمسكة بعلاقاتها الحميمة مع إسرائيل وبتزويد الكيان الغاصب بالغاز-رغم ‏صدور قرار قضائي بوقف الصفقة المعيبة-. ‏

وفي ظل هذا الهوان لمصر العظيمة وبتنازلها عن دورها التاريخي في نصرة قضايا الأمة –كما ‏يقول الأستاذ هيكل- كان لا بد أن تتحرك دول أخرى صغيرة أو كبيرة لملء الفراغ، ‏ومن هنا تعاظم دور إيران، وتركيا، الجارتين المسلمتين، ولم تجد الدول التي أسميتها ‏‏بالفكة وفي مقدمتها دولة قطر المعطاءة، بُداً من القيام بدور أكبر من حجمها، لأن ‏الأمانة تقتضيها فعل ذلك. فالكبير يصغر بأفعاله إن صغرت والصغير يكبر بها إن كبرت، ‏وقد شجعها نجاحها الباهر في دعم صمود أهل لبنان وفي جمع شمل الفرقاء المتخاصمين ‏على القيام بدور مماثل لفلسطين، ولكن مصر أصرت على إفشال التئام القمة حتى تكمل ‏إسرائيل مخططاتها.‏

‏ لقد كانت القمة ضرورية منذ أول يوم للعدوان لإرسال إشارات دعم وصمود لأهلنا ‏المقاومين في غزة فترتفع روحهم المعنوية ويزداد صبرهم وعنادهم، ولكن حكومة مصر ‏أبت إلا إعطاء الفرصة كاملة لإسرائيل حتى تنجز المهمة. ‏

هذه هي الحكاية يا صديقي، ولقد أنهزم العدوان اليوم وظلت حماس عصية على الكسر، ‏صحيح أن شعبنا دفع ثمناً غالياً لذلك ، ولكن ذلك لا يهم ، فشهداؤنا عند الله أحياء ‏يرزقون، وجرحانا سيحملون جراحهم أوسمة على صدورهم، وما تم تدميره سيعاد بناؤه ‏بهمة المخلصين من الأمة العربية والإسلامية والشرفاء في هذا العالم. ‏

لقد شكل صمود أهلنا في غزة نقطة تحول تاريخية في مسار القضية الفلسطينية، وبعد أن ‏تاهت القضية ثلاثة عقود في دواليب السياسة، ها هي اليوم تعود إلى المسار الصحيح، ‏ولقد وعد الله عباده المؤمنين بأن يتبروا ما علت إسرائيل تتبيرا وأن يدخلوا المسجد كما في ‏الوعد الثاني لبني إسرائيل. ونحسب أن الوعد قد اقترب أجله فالله العادل لا يرضى أن ‏يستمر الظلم الصهيوني لشعبنا إلى ما لا نهاية.‏

في الختام أرجو أن لا أكون قد أطلت عليك، مع وافر تحياتي،،،،

بشير يوسف الكحلوت

‏18/1/2008‏