مياه كثيرة جرت تحت الجسور ما بين قمة العشرين الثانية في لندن في شهر إبريل الماضي وقمة بيتسبرج الثالثة التي ستعقد في الولايات المتحدة نهاية الأسبوع الحالي. ففي حين انعقدت القمة الثانية وسط أجواء خانقة من الفوضى الاقتصادية والاضطراب المالي، فإن القمة الثالثة تنعقد بعد أيام وقد انقشع جزء من السحابة السوداء التي غطت الاقتصاد العالمي لعدة شهور، وبدا في الأفق بوادر انتعاش مبكر لم يكن في الحسبان حدوثه بمثل هذه السرعة. فهل تجاوز العالم اليوم أسوأ مراحل الأزمة المالية العالمية؟ وهل تأتى ذلك بفضل السياسات المالية والنقدية الناجعة التي اتخذتها الدول الصناعية كل على حدة في الوقت المناسب، أم بفضل التحرك الدولي الجماعي الذي قادته الدول العشرين ذوات الاقتصاديات الأكبر في العالم من أجل صياغة اقتصاد عالمي جديد بعد أن تصدعت الأسس التي قام عليها اقتصاد ما بعد الحرب العالمية الثانية أو ما يُعرف بنظام بريتون وودز؟
لقد كان من حُسن الطالع أن تخرج عدة اقتصادات هامة كاليابان وألمانيا وفرنسا وعدد من الدول الأوروبية من الركود الاقتصادي في الربع الثاني من العام، وأن تسجل دول مثل الولايات المتحدة ركوداً محدوداً بمعدل واحد بالمائة فقط مقارنة بت 6.5% في الربع الأول من العام على معدل سنوي. وعادت أسعار النفط إلى الارتفاع إلى مستوى 70 دولار للبرميل_ أي ضعف الحد الأدنى الذي بلغته في الربع الأول- بما أعطى الدول النفطية الثقة والقدرة على الإنفاق بسخاء لإخراج اقتصاداتها من تداعيات الأزمة العالمية. فكان أن توقفت كرة الجليد عن التدحرج عند منعطف مهم ودارت عجلة النمو الاقتصادي ولو على استحياء بانتظار ما ستسفر عنه جهود مجموعة العشرين الدولية من نتائج ترسخ وتعزز برامج إصلاح النظام المالي الدولي من العثرات وبما يحول دون عودة الاقتصاد العالمي إلى الإنزلاق من جديد في دوامة الأزمات وما ينشأ عنها في العادة من تداعيات.
وكانت قمة العشرين التي انعقدت في لندن في إبريل الماضي قد بحثت في مسائل هامة عديدة وخرجت بقرار مفاجئ حول توسيع صلاحيات صندوق النقد الدولي وتعزيز قدراته بمبلغ تريليون دولار لمساعدة الدول النامية والأكثر فقراً، وبالاستمرار في انتهاج سياسة مالية توسعية لمساعدة الاقتصاد العالمي على استعادة عافيته وخروجه من الركود. ولقد كان لهذه القرارات آثار إيجابية في طمأنة الأسواق المالية العالمية إلى إمكانية تضافر الجهود العالمية في مواجهة الأزمة. وفي المقابل لم تخرج القمة الثانية باتفاقات نهائية حول مسائل أخرى من بينها ما يتعلق بإصلاح النظام المالي العالمي لاختلاف وجهات النظر بشأنها ليس فقط ما بين الدول النامية بزعامة الصين والبرازيل وبين الدول المتقدمة، ولكن بين دول هذه المجموعة الأخيرة ذاتها وخاصة أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، في موضوع مثل مكافآت رؤساء البنوك والشركات المالية، وموضوع الملاذات الضريبية الآمنة. وفي التحضير للقمة الثالثة، اتفق وزراء المالية في مجموعة العشرين في ختام اجتماعهم في لندن على عدد من الاجراءات تهدف الى تشديد الرقابة على النظام المصرفي العالمي. ومن بين الاجراءات التي تم الاتفاق عليها ربط حجم المكافآت التي يحصل عليها مدراء المصارف بأداء المصارف التي يديرونها على المدى الطويل وليس على المدى القصير، لكنهم لم يتفقوا على حدود معينة للمبالغ التي يمكن أن يحصلوا عليها. واتفق الوزارء ايضا على وضع أنظمة جديدة للحوافز في البنوك لمنع المسؤولين عنها من الدخول في عمليات ذات مخاطر عالية بهدف تحقيق ارباح كبيرة، والتي كانت احد اسباب الازمة المالية العالمية. كما تم الاتفاق على توزيع الحوافز على فترة طويلة من الزمن، وامكانية استعادتها اذا ثبت أنه تم اتخاذ قرارات خاطئة من جانب المديرين. غير أن وزراء المالية لم يتفقوا على الاقتراح الفرنسي بوضع قيود إلزامية على الحوافز المصرفية.
هذا الاقتراب من الاتفاق في موضوع إصلاح النظام المالي العالمي على مستوى الوزراء يبشر بإمكانية الخروج باتفاق على مستوى رؤساء الدول في قمتهم الثالثة، ويدعم هذا التفاؤل أكثر من سبب:
الأول: أنهم قد خرجوا باتفاقات مفاجئة في قمتهم الثانية رغم ما كان يبدو على السطح من خلافات عميقة بين الرؤساء قبل وأثناء القمة في أبريل الماضي.
الثاني: أنه ليس من صالح أحد أن تفشل القمة، فالكل في قارب واحد والغرق يتهددهم جميعاً إذا لم يصلوا إلى إتفاق.
الثالث: أن قرار الولايات المتحدة المفاجئ في الأسبوع الماضي بشأن التراجع عن إقامة الدرع الصاروخي في جمهورية التشيك يبعث على الأمل بأن إدارة الرئيس أوباما مستعدة لتقديم تنازلات من أجل المصالح العليا.
وقد تعهد الرئيس الأمريكي في خطابه الأسبوعي بالعمل مع قادة مجموعة العشرين لسد الثغرات في اللوائح المالية، مشددا على أنه لم يعد من الممكن السكوت عن برامج تدر «مكافآت سمان للمسؤولين التنفيذيين». وقال إن الخطوات التي اتخذت منذ اجتماعهم السابق في نيسان (أبريل) في لندن أحرزت «تقدما حقيقيا» صوب كسر طوق الأزمة الاقتصادية العالمية، لكنه أصر على أن «وقف النزيف لا يكاد يكفي»، وأضاف «ندرك أنه مازال أمامنا الكثير مما يجب عمله بالتعاون مع دول العالم لتعزيز القواعد التي تحكم أسواق المال وضمان ألا نجد أنفسنا مجددا في الوضع الحرج الذي وجدنا أنفسنا فيه منذ عام واحد فقط. ولم تكن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أقل حماساً من الرئيس أوباما فقالت في الأسبوع الماضي إن إطارا جديدا للإجراءات المنظمة لأسواق المال يجب أن يكون جاهزا بحلول منتصف العام المقبل، وأكدت أن الاتفاقيات بين زعماء العالم بشأن إصلاح السوق المالية يجب أن تتجاوز تلك التي تم التوصل إليها خلال قمة المجموعة في لندن في نيسان (أبريل)، ومن المهم للغاية أن نحصل على نتائج ملموسة تذهب لأبعد مما اتفقنا عليه في لندن.
وإذن فالعالم يتجه نحو تصحيح للأوضاع للاقتصادية أو نحو بناء نظام مالي ونقدي جديد، ولكن ذلك لن يحدث دفعة واحدة وإنما على مراحل وبالتدريج. وهناك أمور أخرى لا بد أن يعاد النظر فيها بحيث تحصل الدول النامية في قمة العشرين على قوة أكبر في إدارة شؤون الاحتياطيات الدولية بما في ذلك إشراك عملات دول مهمة كالصين في نظام الاحتياطي العالمي. وقد يكون من صالح دول مجلس التعاون الإسراع في إقامة إتحادها النقدي حتى يكون لعملتها الموحدة ثقل أكبر عند إقرار أي نظام جديد.