استكمالاً لحديث الأمس عن قانون الدين العام نشير هنا إلى أن اصدار هذا القانون وتعديله بما يتلائم مع الظروف المستجدة والتطورات المتلاحقة يمثل نقلة نوعية هامة في العمل الاقتصادي على الصعيدين المالي والنقدي.. ويوفر القانون أرضية مشتركة للتعاون بين السلطتين المالية ممثلة بوزير المالية والنقدية ممثلة بمحافظ مصرف قطر المركزي من أجل تحقيق الأهداف الاقتصادية العامة للدولة والمتمثلة في تحقيق النمو الاقتصادي في ظل استقرار الأسعار وثبات سعر صرف الريال القطري. وكما أشرت في مقال الأمس فإن السندات الحكومية التي صرح القانون باصدارها في الداخل والخارج كلما دعت الحاجة، هي أداة من أدوات السياسة المالية بقدر ما هي أداة من أدوات السياسة النقدية، فإذا كان اصدار سندات وسيلة لتوفير المال اللازم لتمويل المشروعات الانمائية وتغطية عجز الموازنة العامة للدولة، فإن الاصدار من وجهة نظر المصرف يعتبر وسيلة هامة للتحكم في حجم السيولة في النظام المصرفي ويمثل أداة من الأدوات اللازمة لعمليات السوق المفتوحة أو عمليات (الريبو) التي يقوم بها أي بنك مركزي مع البنوك العاملة تحت اشرافه..
وقد كانت الدول العربية والخليجية سابقة لقطر في مجال اصدار السندات وأوذنات الخزانة وما يعرف بسندات التنمية، وأتاح لها ذلك الحصول على الأموال اللازمة لتمويل الانفاق الاستهلاكي والاستثماري للحكومات. وقد أصطدم اصدار السندات الحكومية في مصر منذ الستينيات بموضوع الفوائد الثابتة المقررة على السندات باعتبار أنها شكل من أشكال الربا، وبعد أن تم دراسة الموضوع من جانب علماء الأزهر، أصدرت لجنة البحوث الفقهية بمجمع البحوث الاسلامية التي رأسها فضيلة الشيخ محمد فرج السنهوري عام 1976م قراراً رأت فيه أن فوائد السندات وشهادات الاستثمار حلال.. وتعزز هذا الرأي بتأييد فضيلة الشيخ محمد سيد طنطاوي مفتي مصر سابقاً وشيخ الجامع الأزهر حالياً ومن قبله فضيلة الشيخ عبد المنعم النمر مفتي مصر الأسبق. وفي قطر، تأخر اصدار قانون الدين العام إلى الأول من عام 1998م رغم أن الحكومة لجأت إلى الاقتراض المحلي والخارجي قبل ذلك بكثير..
وقد نضجت الظروف وباتت مهيئة لاصدار السندات بعد أن بات واضحاً أنه في ظل الاحتياجات المالية الضخمة لمشروعات حقل الشمال للغاز والمشروعات الصناعية والانمائية المختلفة فإنه لا بد من الاعتماد على اصدار السندات في الداخل والخارج لما تتمتع به السندات من مزايا كثيرة مقارنة بالاقتراض المباشر، ومن هذه المزايا أن بعض السندات ذات آجال طويلة قد تصل إلى ثلاثين سنة في حين أن أغلب القروض المصرفية تكون لآجال متوسطة تصل إلى سبع سنوات. ومن المزايا أيضاً أن السندات تعتبر أدوات استثمارية يمكن بيعها أو رهنها بعكس القروض المباشرة، والبنك الذي لديه سندات حكومية يكون في وضع أفضل من البنك الذي يقرض الحكومة مباشرة.
وقد تحسنت الظروف المالية للدولة في العامين الأخيرين ولم تعد الحكومة بحاجة ماسة إلى اصدار السندات كما كانت في فترات سابقة، وتشير أحدث بيانات صادرة عن مصرف قطر المركزي إلى قيام الحكومة بسداد جانب من قروضها للبنوك المحلية.. فقد انخفض اجمالي التسهيلات الائتمانية في قطر في شهر يونيو بنسبة 10.5% عما كان عليه في مايو ليصل إلى مستوى 34.86 مليار ريال وكان ذلك نتيجة أساسية لتراجع التسهيلات الممنوحة للحكومة والقطاع العام في نفس الفترة بنسبة 25.2% من 19.31 مليار في مايو إلى 14.44 مليار في شهر يونيو، وبذلك انخفضت حصة الحكومة والقطاع العام في التسهيلات الائتمانية الي تقدمها البنوك المحلية إلى 41.4% مقارنة بـ 49.6% في شهر مايو، ومن المتوقع أن يستمر هذا الاتجاه التنازلي مقابل حدوث زيادة في حجم السندات المصدرة والمتداولة لأهمية تلك السندات في تنفيذ مصرف قطر المركزي لسياسة نقدية فاعلة.
على أن الجديد في موضوع قانون الدين العام هو في قرب تداول الجمهور من قطريين وغير قطريين للسندات بما يساعد على تنويع البدائل الاستثمارية المتاحة لهم في الداخل بين الأسهم والسندات والودائع المصرفية، وهذا الموضوع بحاجة إلى مزيد من التفصيل ونرجو أن نعود إليه في مقال ثالث بعونه تعالى.