جاء قرار مجمع البحوث الفقهية بالأزهر الشريف في الأسبوع الماضي مفاجئاً للجميع ليس في مضمونه فحسب وإنما في حجم الإجماع الذي حظي به القرار ، إذ أيده اثنان وثلاثون عالماً وعارضه اثنان فقط ، وبذلك أصبع لدينا لأول مرة إجماعاً جديداً يُرتكز عليه بشأن الفوائد البنكية ، بعد أن ظلت الفتوى الأولى الصادره عن نفس المجمع في عام 1965 هي الأساس الذي تنطلق منه الفتاوى بشأن أعمال البنوك وفوائدها.
ومما لا شك فيه أن هذا القرار الجديد لا يحل حراماً كما يتصور البعض وإنما هو يضع الأمور في نصابها الصحيح ، وهو لا يحل الربا وإنما يبرئ فوائد البنوك من تهمة الربا التي علقت بها على مدى العقود الأربعة الماضية منذ أن أصدر المجمع قراره الأول بهذا الشأن في عام 1965.
والقرار الجديد للمجمع يمثل انقلاباً تاماً في وجهة نظر أعلى هيئة شرعية في العالم الإسلامي في موضوع الفوائد البنكية ، ولكنه على أي حال لم يأت من فراغ ، بل كان محصلة لدراسات وثمرة مناقشات عميقة على مدى العقود الماضية ، وقد صدر القرار الأول في وقت كانت الدول العربية والإسلامية في أغلبها حديثة العهد بالاستقلال والتطور ، وكانت البنوك آنذاك قليلة العدد ومحدودة النشاط مقارنة بما وصلنا إليه اليوم ، وكانت خبرة الفقهاء في أعمال البنوك تكاد تكون منعدمة ، ومن ثم كان الرأي الذي ساد المؤتمر الأول هو أن الفوائد البنكية من قبيل الربا طالما أنها تمثل زيادة على رأس المال ، ولم يكن ذلك القرار مقنعاً بدليل أن أعمال البنوك في العالم الإسلامي قد توسعت منذ ذلك الوقت ، وازداد عددها بشكل مضطرد.
ولم يتوقف الجدل في الساحة الإسلامية على امتدادها بشأن صحة التحريم ، وظل الحال على ذلك حتى أصدر الشيخ محمد سيد طنطاوي فتواه الأولى عام 1989 بإباحة الفوائد باعتبار أنها ليست الربا الذي تحدثت عنه الشريعة الإسلامية.
وقد كانت لي في سنوات التسعينات دراسة متعمقة في هذا الموضوع توصلت فيها إلى أن تعريف الفقهاء للربا هو ما أوقع الناس في البلبلة بشأن الفوائد ، ذلك أن الربا الجاهلي كان يتصف بالظلم الذي هو علة كل تحريم ، وكان عجز المدين عن السداد بتضاعف الدين في سنة أو سنتين عدة مرات هو الدافع وراء تحريم الربا. وقد أكد القرآن الكريم في أكثر من آية على أن الربا هو الضعف ، انظر في ذلك على سبيل المثال قوله تعالى في آية : ((يربي الصدقات)) أي يضاعفها ، وقد شرح ذلك في آية أخرى بقوله : ((المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعف لهم ولهم أجر كريم)). وأعمال البنوك لا تصل فيها الفوائد إلى ضعف رأس المال لا في سنة ولا سنتين ولا ثلاث بل يتطلب الأمر مرور أكثر من 6 سنوات حتى تتضاعف مرة واحدة بافتراض عدم سداد أي قسط.
إن وصول المجمع الفقهي إلى قراره الجديد هو تصحيح لواقع كان -في رأي مجموعة من العلماء- مغلوطاً على مدى العقود الماضية ، وستكون للقرار نتائج هامة في الساحة المصرفية وعلى أعمال البنوك في السنوات القادمة ، وللحديث بقية ..