تطور إقتصاداتنا لماذا يظل أسيراً لمفاهيم واستدلالات غير صحيحة ؟

1. نشر الدكتور علي القره داغي رداً على قرار مجمع البحوث الاسلامية بالأزهر الشريف الذي صدر بتاريخ 31/10/2002م وقضى فيه المجمع بحل فوائد البنوك وعدم ربويتها. وقد تبنى الدكتور القره داغي وجهة النظر المخالفة التي تقول بتحريم الفوائد،وتعجب من رجوع المجمع عن قراره القديم الصادر عام 1965م. ولقد جاء مقال الدكتور القره داغي في صفحة كاملة ، ولكنه للأسف لم يأت بجديد إلا فيما ندر وحشد كل ما قالته المجامع الفقهية سابقاً عن الربا – وهومعروف ولكنه غير مقنع – دون أن يشرح للقراء الأسباب الحقيقية لتحريم الفوائد ، وكنت أتمنى على وجه الخصوص لو أعاد النظر في بعض النقاط الأساسية في الموضوع لا أن يكتفي بترديد ما قالته المجامع السابقة منذ عشرات السنين ومن هذه النقاط ما يلي:
• لماذا يُحرم تحديد العائد على رأس المال مقدماً ؟
• كيف استنتج العلماء أن أي زيادة على رأس المال حرام ؟
• وما هو تعريف الربا مع مناقشة الأدلة على ذلك ؟
وسأقوم من خلال هذا المقال ببيان وجهة النظر في النقاط المشار إليها مع التسليم بقول الإمام الشافعي المأثور : رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، ولكنني أطلب من العلماء مناقشة هذه الآراء لإقناعنا بخطئها – إن كانت خطأً – لا أن يكتفوا باستهجانها ورفضها. وأرجوا أن يتذكر الجميع أن الله سبحانه وتعالى قد نهى عن المغالاة في تحريم الأشياء بدون سند شرعي فقال: قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم.. الأنعام . وقال في سورة الأعراف : قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق…. وحرص المولى عز وجل على تحديد المحرمات بشكل قاطع حتى لا يقع عباده في المحظور وكان يقول دائماً : تلك حدود الله فلا تقربوها ، فهل يُعقل أن يحرم الله الربا دون أن يوضح لنا المقصود به ؟! حاشى لله طبعاً ، ولكن بعض العلماء من السلف قد استنبطوا في الربا أحكاماً واستدلوا على أشياء غير صحيحة إمعاناً في البعد عن الربا ، حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (تركنا تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الربا). وقد لحق بهم الفقهاء من بعدهم ونقلوا عنهم جيلاً بعد جيل .
2. لقد بدأ الدكتور القره داغي مقاله بالتأكيد على عدم ارتباطه في الوقت الحاضر بأي من لجان الرقابة الشرعية التابعة للبنوك الإسلامية .. وقد كان قصده من ذلك أن ينفى عن نفسه شبهة المصلحة فيما سيقول وهذا حقه ، ولكنه قدم بذلك إعترافاً ضمنياً بعدم جواز قبول آراء وفتاوى غيره من العلماء المنتمين للجان الرقابة الشرعية في مسألة الفوائد. وإذا تصورنا أن عدد العاملين في اللجان الشرعية في 90 بنكاً إسلامياً يزيد على المائتين ، فإن السؤال الذي يطرح نفسه عندئذ هو كم من هؤلاء العلماء الأفاضل يشارك في أعمال المجامع الفقهية التي تصر على تحريم الفوائد البنكية ، لبيان مدى موضوعية قرارات تلك المجامع ؟

هل تغيير الرأي ذنبٌ ؟
3. أخذ الدكتور القره داغي على مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف رجوعه عن قراره الأول الصادر عام 1965م واستنكف أن يبدل الشيخ طنطاوي فتواه .. وقد لا يكون في رجوع أحد عن رأيه ذنبٌ ولا جريمة ، بل الواجب يقتضي ذلك حالما تتبدل القناعات المستندة إلى شواهد وإثباتات. فآراء الإمام الشافعي رحمه الله في مصر كانت مخالفة لآرائه السابقة في العراق ، وقد رجع الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) عن رأيه في موضوعات مختلفة عندما رأى أن المصلحة تقتضي ذلك ، فأمر بزيارة القبور بعد أن نهى عنها ، وأمر بتأبير النخل (أي تلقيحه) بعد أن كان قد أوصى بخلاف ذلك وقال أنتم أعلم بشؤون دنياكم. وإذا كان المجمع والشيخ طنطاوي قد رجعا عن الفتوى القائلة بالتحريم فذلك لأن الفتوى الأولى لم تكن صحيحة .
لماذا تختلف الفوائد البنكية عن الربا ؟
وكما هو معروف ، استندت الفتاوى القديمة إلى ما ورد في الآيتين 278 و 279 من سورة البقرة وإلى ما ورد في حديث الأصناف الستة : الذهب بالذهب والفضة بالفضة…. وفي حين أن الآيتين من سورة البقرة تفيدان تحريم الربا ولا يمكن الاستدلال منهما على تحريم الفوائد البنكية كما سيرد تفصيله لاحقاً ، فإن الاستدلال بالحديث المذكور فيه خلط بين ربا البيوع وربا النسيئة (أي الأجل) كما سيرد شرحه تالياً. وقد شكك عدد من الصحابة الثقات في هذا الحديث ولم يسمعوا به ومنهم ابن العباس وأسامة بن زيد وعبدالله بن الزبير وزيد بن الأرقم وسعيد بن جبير رضي الله عنهم (أنظر في ذلك صحيح مسلم الجزء الثالث الأحاديث 101 و 102 و 104 وكلها تؤكد قول الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – لا ربا إلا في النسيئة. وقد قال الشيخ محمد أبو زهرة في كتاب خاتم النبيين صفحة 1104 أن ربا البيوع لم يثبت إلا بالأحاديث الواردة فيه وهي أحاديث لا تثبت قطعياً ويقيناً.
ومع ذلك لو سلمنا بصحة الحديث فإن الاستدلال بما جاء في آخره وهو : من زاد أو استزاد فقد أربى لا يمكن أن يفهم إلا في إطار موضوع التجارة. فالحديث عن الأصناف الستة المشار إليها كان على سبيل الحصر ، والزيادة التي يتحدث عنها الحديث ليست مطلقة وإنما ينصرف معناها إلى الكيل والميزان ، وقد نهى الله عن التلاعب في الموازين والمكاييل كما ورد في سورة المطففين ، ونهى الرسول الكريم عن هذا الموضوع في أحاديث ربا البيوع من باب سد الذرائع ومنهاحديث : لا تبيعوا الدرهم بدرهمين. ومع ذلك توقع الرسول الكريم أن يعم بلاء التلاعب في الموازين والمكاييل الذي يعتبره نوعا من الربا فقال: يأتي زمان على الناس لا يبقى فيه أحد إلا أكل الربا ، فإن لم يأكله طاله غباره . وهذا الحديث إن صح يشير الى المعاملات التجارية وإلى أن كل طرف يسعى دائماً للحصول على أكثر مما يستحق في أي معاملة مع طرف الآخر،ولا يعقل أن يتعلق الأمر بربا الدين ، لإن هناك مئات الملايين من المسلمين – على الأقل- لا تتعامل بالديون وليس لها حسابات بنكية فمن أين يصيبهم غبار الربا.
أما الاستدلال بالآيتين من سورة البقرة في القول بعدم جواز أخذ أي زيادة على رأس المال ، فهو استدلال غير صحيح ، استناداً لما ورد في كتب التفسير في شرح الآيتين ، وهو أن نفراً من ثقيف وهم من أهل الطائف قد دخلوا الإسلام بعد فتح مكة وكان لهم دين على بني المغيرة من مخزوم ، ولم يتوقفوا عن طلب الربا بعد إسلامهم ، فاشتكى بنو المغيرة إلى عامل مكة الذي رفع الأمر إلى الرسول الكريم صلوات الله عليه فنـزلت الآية 278: يا أيها الذين آمنوا ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ، ويُفهم من الآية أن ذروا ما بقي من الربا تخص العدد القليل من ثقيف المتمسكين بالربـا ، ولا ينصرف معناها إلى أن الربا هو قليل الفائدة.وقد يقول الفقهاء إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص سبب التنـزيل ، وأقول إن الأخذ بعموم اللفظ لا يغير من صحة الإستدلال ، وأن ذروا تظل دالة على عدد حالات الربا وليس نسبته أو معدل الفائدة .
ثم يبين الله تعالى في الآية 279 كيفية الخروج من الربا لمن تاب بقوله في شطر الآية: وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون ، ذلك أن المرابين باتوا في حيرة من أمرهم فماذا هم فاعلون بعد التوبة ؟ أيعيدون ما أكلوه من ربا حتى ولو كان أضعاف رأس المال ، أم يتوقفوا عن أكل الربا ولهم ما قد سلف ؟ فجاء الجواب : لكم رؤوس أموالكم ، وهو حكم يقترن بشرط التوبة عن الربا، ولا يتجاوزه إلى المعاملات الجديدة التي يُفترض خلوها من الربا . ولو كان الله يريد إقرار حكم بعدم جواز أخذ أي زيادة على رأس المال لنص على ذلك صراحة في الآية 282 التي تتحدث عن الدين. فإذا كانت الآية 279 تعالج وضعاً استثنائياً لمن يتوبون فإن الآية 282 تضع أحكاماً جديدة بخصوص التداين. والفهم الصحيح لسياق المعنى في الآيتين يوجب أن يأتي النهي عن أخذ أي زيادة على رأس المال ضمن شروط التداين الجديدة التي أقرها الله في الآية 282 ، لا أن يتم استنتاجه تعسفاً من الآية 279 ، ولكن الله تعالى لحكمة بالغة لم يقرر شيئاً بهذا الخصوص ، ونشير في نهاية هذا المقال الى ما نفهمه من حكمة في هذا الموضوع.
4. ولا زلنا بصدد الحديث عن سبب رجوع مجمع الأزهر والشيخ طنطاوي عن تحريم الفوائد ، فنقول إن الاستدلال غير الصحيح لمفهوم الربا عام 1965م قد تناقله العلماء والفقهاء بعد ذلك دونما مراجعة أو تمحيص ، فحكموا على البنوك بفساد أعمالها رغم ما فيها من مصالح رائجة وخلوها من الظلم الذي هو علة تحريم الربا. ومع ذلك لم تتوقف الاعتراضات على تحريم الفوائد ، وحدث أول تحول في عام 1976م عندما قضت لجنة البحوث الفقهية للأزهر برئاسة الشيخ محمد فرج السنهوري بأن فوائد شهادات الاستثمار ذات العائد الثابت حلال. وقاد الشيخ الدكتور عبدالمنعم النمر المناقشات المطالبة بإعادة النظر في الموضوع منذ عام 1982م والتي استمرت على فترات إلى أن عَدَلَ الشيخ طنطاوي عن فتواه وأقر بأن فوائد البنوك حلال في عام 1989م ، وقد أيد كبار مشايخ الأزهر في حينه فتوى الشيخ طنطاوي ، ومنهم الشيخ محمد الغزالي رحمه الله والدكتور عبدالله المشد ، وعندي أدلة موثقة على هذا التأييد.

الإستدلال بحديث سنده ساقط!
5. وفي موضع آخر من المقال ينقل الدكتور القره داغي آراء بعض المعارضين لقرار المجمع الجديد فقال إن الدكتور أحد طه ريان وكيل كلية الشريعة وعضو المجمع قد عارض القرار الجديد استناداً إلى الحديث الشريف الواضح كل الوضوح كل قرض جر نفعاً فهو ربا. وهذا الكلام وإن كان واضحاً كل الوضوح فإنه ليس حديثاً ، فقد رواه الحارث بن أبي إمامة وإسناده ساقط – لأن في إسناده سوار بن مصعب الهمذاني وهو متروك – وله شاهد ضعيف عن فضاله بن عبيد البيهقي ، وآخر موقوف عن عبدالله بن سلام. والمؤكد أن هذا الحديث برواياته المختلفة لم يثبت إتصال سنده إلى الرسول الكريم ، فكيف يكون حديثاً؟ ويتعمد الدكتور القره داغي مع ذلك نقل نفس الحديث عن رأي آخر حول الموضوع للدكتور عبدالحميد الغزالي أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة. وإذا كان الأساتذة الثلاثة بمناصبهم الرفيعة لا يعلمون بسقوط سند الحديث فتلك قضية ، وإذا كانوا يعرفون به – وهو الأرجح – ويستخدمونه لوضوحه في الترويج لفكرة تحريم الفوائد البنكية بدون حق فتلك قضية أخرى.

الإستدلال من حديث المزارعة في قضية هامة !
6. وينقل الدكتور القره داغي رأي آخر للدكتور محمد رأفت عثمان وهو من أعضاء المجمع المعارضين للقرار الجديد ، يرى فيه أن فوائد البنوك حرام وإذا لم تكن كذلك فإنها من المضاربة الفاسدة لأن تحديد مبلغ معين على رأس المال لا يجوز شرعاً. ونقول كما قال آخرون بأنه لا يوجد في القرآن ولا في السنة ما يمكن أن يستدل منه على تحريم تحديد العائد مقدماً ، وقد تم استنباط هذه القاعدة من حديث المُزارعة الذي ينهى فيه الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام عن اشتراط أخذ عائد جزء معين من الأرض عند الاستزراع ، مع تدعيم القياس بقول الإمام ابن قدامة (المزارعة مثل المضاربة). وفي تقديري أن هذا الاستدلال غير مقنع والقياس فيه ضعيف لاختلاف ظروف القرض عن ظروف المزارعة ، ففي المزارعة يكون المزارع مقيداً بعمل واحد هو الفلاحة بينما يتسع المجال أمام المقترض ليتصرف في مال القرض كيفما شاء. وفي المزارعة تتدخل عوامل بيئية ومناخية خارجة عن إرادة المزارع لتؤثر على حجم الانتاج ، ومن هنا نهى الرسول الكريم عن استئثار صاحب الأرض بنصيب معين من عائد الأرض سلفاً حتى لا يلحق الظلم بالمزارع إذا ما أصاب بعض الزرع عارض طارئ أو تفاوتت غلة الأرض ما بين جزء وآخر. ثم إن ابن قدامة ينقل قياسه من المزارعة إلى المضاربة ، وأعمال البنوك كما يقول الفقهاء ليست مضاربة ، فكيف يقبلون بنقل القياس إليها ؟ إن موضوع تحريم الربا من الأمور العظيمة في الإسلام ولا يُعقل أن يترك استنباط حكم أساسي فيه إلى حديث ، وياليته عن الربا بل عن الاستزراع .. أفما كان من الأجدى أن يأتي النهي عن تحديد العائد مقدماً ، صراحةً في أحاديث تحريم الربا ، وهي كثيرة ؟ أم أن سكوت الرسول الكريم (ص) على ذلك كان أمر مقصوداً ؟

هل نجت باكستان من مخاطر الربا ؟
7. وينتقل الدكتور القره داغي بعد ذلك إلى الحديث عن الآثار السيئة للفوائد البنكية من قرارٍ لمجمع رابطة العالم الإسلامي بمكة عام 1985م ، وقد جاء فيه ما يلي: لقد أثبتت البحوث الاقتصادية الحديثة أن الربا – والمقصود هنا بالطبع الفوائد البنكية – خطر على إقتصاد العالم وأنه وراء كثير من الأزمات التي يعانيها العالم ، والنجاة من ذلك لا تكون إلا باستئصال هذا الداء الخبيث. وقد وفق الله بعض البلاد الإسلامية مثل باكستان لتحويل بنوكها إلى بنوك إسلامية لا تتعامل بالربا. وهذه الديباجة من نوع الكلام الإنشائي الذي لا معنى له ، وتحتوي على مغالطات كثيرة وقد كان أحرى بالمجمع المذكور أن يبين للناس ما هي هذه المخاطر التي تهدد إقتصاد العالم من الفوائد البنكية وأعمال البنوك. ولكي لا يطول الجدل حول هذه النقطة أكتفي بالإشارة إلى أن باكستان لم تحقق أي إزدهار ولم تنجو من المخاطر بعد تحول نظامها المصرفي إلى العمل بالنظام الإسلامي ، والدليل على ذلك أن متوسط دخل الفرد السنوي قد انخفض فيها من 500 دولار عام 1985م إلى نحو 400 دولار فقط في عام 2001م وفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي.

الوديعة وكالة وليست قرضاً
8. وانتقل الدكتور القره داغي أخيراً لمناقشة حيثيات القرار الصادر مؤخراً عن مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر ، والذي يجيز فوائد البنوك ، وكان من بين هذه الحيثيات أن العلاقة بين المودع والبنك هي نوع من الوكالة ، وأن الأموال التي تودع في البنوك تدخل في التنمية والصناعة الوطنية ، وبالتالي لا توجد فيها شبهة ربا أو استغلال طرف لآخر. وقال الدكتور عبد المعطي بيومي – عضو المجمع – إن تحديد العائد مقدماً يدخل في باب الوكالة ، كما أنه يحمي المال من فساد الذمم التي قد تؤدي إلى ضياع أرباح المستثمر. وقال الدكتور محمد إبراهيم الفيومي إن قرار المجمع صحيح شرعاً نظراً لأن الدولة هي الضامن للبنوك ، واستثمار الأموال فيها يحقق التنمية الشاملة ، وليس فيه استغلال لأحد.
ويعترض الدكتور القرة داغي على ما تقدم بالقول إن التكييف القانوني في مصر وفرنسا وغيرهما لعقد الوديعة في البنوك هو عقد قرض ، وأنه بالتالي ليس عقد وكالة. وأرد على الدكتور بأن مواد القوانين ليست منـزلة من السماء ، وهي قابلة دائماً للتبديل والتعديل حسب الأحوال. ثم أن الوديعة البنكية ليست قرضاً بأي حال من الأحوال للأسباب التالية:
أولاً: أن المقترض هو الذي يسعى إلى الُمقرض للحصول على المال وليس العكس والبنك لا يسعى إلى المودع بل يأتيه هذا راغباً مختاراً .
ثانياً: أن المُقرض يطلب عادةً ضمانات لأمواله من المقترض .
ثالثاً: أن المقرض هو الذي يحدد معدل فائدة الإقراض.
رابعاً : أن المقرض يطلب من المقترض تسديد القرض على أقساط أو جملة واحدة ، وفي وقت معين أو أوقات محددة.
خامساً: أن المقرض يطلب تضمين كل الشروط السابقة في عقد قرض يوقع عليه الطرفين وبتوقيع كفيل غالباً أما في حالة الوديعة فإن المودع يودع نقوده في البنك بدون ضمانات أو كفالات ، ويترك للبنك حرية تحديد سعر الفائدة ويقبل تغييره من فترة لأخـرى . والنتيجة أن المودع لا يقرض ماله للبنك ، وإنما يوكله بإدارته حسب قواعد العمل المصرفي . ويستقطع الوكيل – أي البنك – مصروفاته من الأرباح المتحققة وفق حسابات متعارف عليها مصرفياً. وإذا كان الوكيل لا يضمن المال الموكل إليه ، فإنه مطالب ببذل جهد لحمايته ورعايته والحفاظ عليه وتنميته ، والبنك يفعل الشيء ذاته ، فإذا ما أفلس – كما حدث لبنك الاعتماد أو بنك التقوى وغيرها – فإنه لا يضمن من أموال المودعين إلا ما تبقى منها.

الربا موجود خارج البنوك
9. وأعود إلى عنوان المقال الرئيسي وجاء فيه : إذا لم تكن فوائد البنوك التقليدية ربا ، فلا ربا في الإسلام اليوم ، وكأني بالدكتور القره داغي يسأل إذا لم تكن فوائد البنوك التقليدية ربا فما هو الربا وأين يوجد ؟
والحقيقة أن الربا موجود في كل المجتمعات ولكنه لا يظهر على السطح وإنما يوجد في الشوارع الخلفية والأحياء الفقيرة ، فحيثما تكون هناك حاجة ماسة للمال ولا يتمكن الشخص من الاقتراض من البنوك- إما لعدم وجود راتب ثابت أو تجارة أو كفيل – فإنه يقع فريسة للمرابين الذين ينتهزون الفرص لاستغلال ذوي الحاجة. أما أعمال البنوك الحديثة فهي خالية من الربا ، ولو تصورنا غير ذلك لكان علينا التسليم بأننا نعيش مخالفة كبيرة للشرع في كل بلاد المسلمين ، ذلك أن حجم الودائع في بنوك قطر على سبيل المثال يزيد عن 40 مليار ريال ويزيد حجم القروض عن 30 مليار ريال. وقد اقترضت قطر عشرات المليارات لتمويل مشروعات التنمية فيها ، وقد بارك الله في تلك المشروعات وطرحت خيراً عميمـاً ، ولو كانت رباً كما يقول الفقهاء لربما محقها الله – لا سمح الله – مثلما توعد المرابين.

ما هو الربا إذاً ؟
10. وإذاً فما هو الربا الذي حرمه القرآن والسنة والشرائع السماوية الأخرى؟
الربا لغة هو الزيادة والنماء كما تقول المعاجم اللغوية ، وهذا المعنى قد يبدو في ظاهره صحيحاً ولكنه في الحقيقة غير ذلك ، فالربا نوع من الزيادة ولكن ليس أي زيادة فقد كان لفظ الزيادة معروفاً عند العرب ، وورد في القرآن الكريم 61 مرة ، ولو أن يربي بمعنى يزيد لقال الله تعالى في سورة البقرة : يمحق الله الربا ويزيد الصدقات بدلاً من يربي الصدقات ، أو أن يقول : أخذناه أخذة زائدة بدلاً من أخذة رابية كما في قصة فرعون مع موسى علية السلام ، أو يقول : أن تكون أمة هي أزيد من أمة بدلاً من أربى من أمة كما في سورة النحل ، ولكن الله سبحانه وتعالى استخدم دائماً اللفظ الأقوى في يربي ورابية واربى للتعبير عن ارتفاع القيمة او هول الموقف،فمن أين استدل الفقهاء إذاً على أن الزيادة هي الربا؟
يقول العرب في تعريف ربا الجاهلية بأن الرجل كان يُقرض شخصاً مبلغاً من المال لأجل ، فإذا جاء الموعد قال له تقضي أم تربي ، فإذا لم يقض زاده في الدين مقابل زيادة الأجل ، ومن هنا فهم الفقهاء أن الزيادة هي الربا وهذا غير صحيح. ولكي نوضح ذلك نعطي مثالاً حسابياً :
نفرض أن مبلغ الدين 100 ريال ، وأن موعد السداد كان بعد شهر ، وفي الموعد تقرر التأجيل مقابل فائدة ربوية 240% سنوياً أو ما يعادل 20% شهرياً أي 20 ريالاً شهرياً ، فيكون مبلغ ال20 ريالاً زيادة على أصل المائة ، فالمقترض يدفع 20 ريالاً كلما أراد تأخير السداد شهراً آخر ، فإذا ما تأخر سنة كاملة فإنه يدفع 240 ريالاً ، ويبقى رأس المال المائة على حاله ، وإذا استمر الحال 4 سنوات أو أكثر فإن الربا مع رأس المال يزيد عن 1000 ريال. فالدفعة الواحدة التي هي 20 ريالاً شهرياً تسمى زيادة لأنها جزء من أصل القرض ، وأما مجموع الدفعات في سنة فهو الربا ، وهذا ما قاله ابن القيم في أعلام الموقعين من أن المائة حالة في ربا الجاهلية كانت تصير آلافاً ، وأما الدفعة الشهرية فهي زيادة ولا تشكل رباً بمفردها ، ولهذا قالوا زاد في الدين ولم يقولوا ربا في الدين.

الربا لغة هو المضاعفة
11. وإذا لم يكن الربا هو الزيادة ، فما هو إذاً ؟
لقد أعطانا الله مفتاحاً لفهم الكلمة ، فقال في سورة البقرة : يمحق الله الربا ويربي الصدقات ، وقال في سورة الحديد : المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعف لهم ولهم أجر كريم ، وقال أيضاً : وإن تك حسنة (أي صدقة) يضاعفها ويؤتي من لدنه أجراً عظيماً. ونفهم من ذلك أن يربي بمعنى يضاعف ، وقد تأكد ذلك من الآتي :
• في سورة الروم يقارن المولى عز وجل بين آكل الربا الذي يتضاعف أمواله في أموال الناس ، ومؤتي الزكاة الذي يتضاعف ثوابه عند الله ، ويقول أولئك هم المضعفون أو المقبول عملهم في وصف النوع الثاني.
• في سورة آل عمران الآية 130 نهي واضح ومباشر بعدم أكل الربا أضعافاً مضاعفة ، وقد قيل إن ذلك من باب المبالغة والتبشيع ، واستكثر الفقهاء أن يكون الربا قد تضاعف في فترة من الفترات إلى أضعافٍ مضاعفة. وأقول رداً على ذلك أنه لو فهم العباس أن النهي عن الأضعاف المضاعفة لا يطابق واقع رباه ، لحاجج الرسول الكريم ، ولربما قال : إن ربانا كذا وليس كذا ولكنه لم يعترض .ثم إن الربا قد رَبَا في فترة نزول هذا الآية ، وهي الفترة التي حدثت فيها غزوة أحد وأصبح أضعافاً مضاعفة نتيجة ملاحقة المسلمين لقوافل قريش ، فاضطربت المعاملات المالية وازداد خوف الناس على أموالهم مما أدى إلى ارتفاع سعر الفائدة الربوية ، وهو أمر مألوف ونشاهده هذه الأيام في الدول التي تقوم بها حروب ، أو تصيبها كوارث ، وقد حدث في العام الماضي أن ارتفع معدل الفائدة على الليرة التركية إلى 2000% سنوياً أو 8% يومياً في الفترة التي تدهورت فيها الليرة التركية إلى نصف سعرها في أسبوع واحد. وفي آيات التحريم يكون التبشيع لاحقاً للمنهي عنه وليس في مضمونه مثل:ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً ، وفي آية أخرى : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلا .
والخلاصة أن يربي بمعنى يضاعف ، وهي تشير إلى ارتفاع كبير في القيمة ، أما الزيادة فتدل على ارتفاع محدود في القيمة وهذا ما يمكن فهمه من كل الآيات التي ورد فيها لفظ الزيادة ، ومنها في سورة الكهف : ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا ، هنا التسع تعادل 3% من الأصل ، وفي سورة الصافات يقول الله تعالى : وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ، حيث الزيادة السكانية 3 أو 4% سنوياً ، وفي سورة يوسف : ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ، الزيادة هنا بعير واحد على تسعة كانت لإخوة يوسف أي واحد من تسعة وتعادل 11%. ويمكن أن يستخدم لفظ الزيادة في حالة الضعف الواحد فقط ، مثل : قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذاباً ضعفاً في النار ، وإذا ارتفعت القيمة أكثر من ذلك نتوقف عن استخدام لفظ الزيادة ونكتفي بلفظ المضاعفة مثل : يضاعف لها العذاب ضعفين و يضاعفه له أضعافاً كثيرةً…إلخ. ولقد وردت كلمة يربي في الأحاديث بمعنى يضاعف ، مثل : فلا والله ما أكلنا من لقمة إلا وقد ربا ما تحتها ، أي تضاعف الطعام القليل ليكفي العدد الكبير.
.
فإذا ما أعيد تعريف الربا ليصبح المضاعفة ورجعنا عن استنباط الأحكام غير الصحيحة بشأن عدم جواز تحديد معدلات الفائدة مقدماً ، فإن الأمور سوف تستقيم وتصبح أعمال البنوك مطابقة للشرع ، والله أعلم.

الحكمة من عدم تحريم الزيادة
معدلات الفائدة كما هو معروف تختلف من مكان الى مكان ومن زمان الى آخر بإختلاف نوع العملة المستخدمة ومعدلات التضخم السائدة، بل وتختلف داخل البلد الواحد من بنك الى آخر ومع نفس العميل من قرض الى آخر حسب المدة والضمانات وما الى ذلك .ولأن العقد شريعة المتعاقدين فقد ترك الله ذلك للمتعاقدين حسب ظروف كل معاملة على حدة بشرط عدم المغالاة التي تحول الحلال الى حرام , والأصل في الأشياء الإباحة طالما لم يرد فيها نص بخلاف ذلك .وعلى سبيل المثال لم يتم تحريم الربا إلا في وقت متأخر رغم أن الله قد أشار قبل ذلك الى تحريمه على اليهود كما جاء في سورة النساء ، فهل توقف المرابون عن المراباة آنذاك على سبيل القياس والإستدلال بما فرضه الله على اليهود ؟
ثم إن الله قد أمرنا في موضوع الأموال ألآ نؤتيها السفهاء وألآ نأكل أموالنا بيننا بالباطل ،والبنوك ليست سفيهة وليس في تعاملاتها جور على أحد بدليل أن المودعين لدى البنوك الإسلامية يحصلون على نفس العائد ويدفع المتمولون منها نفس ما يدفعه المقترضون من البنوك الأخرى على المعاملات المتماثلة.
والفائدة عنصر مهم في أي نظام نقدي وهي التي تحدد ميل صاحب المال إلى الإنفاق أو إلى الإدخار فإذا كانت مرتفعة زاد الميل للإدخار وإذا إنخفضت زاد الميل إلى الإستهلاك. ولوكان هناك بنكا لا يعطي فائدة على الودائع فإنه لن يجد من يودع لديه ، وإذاكان هناك من يقرض بدون فائدة فإن الناس سوف ينهالون عليه طلباً للمال ،وليسأل الدكتور القره داغي عن حجم الطلبات التي وصلت للبنك الدولي الإسلامي عندما أعلن مؤخراً عن تقديم قرضٍ حسن بواقع راتب شهرين فقط لمن ينقل راتبه إلى البنك. والله الذي خلق النفس البشرية يعرف ما جُبلت عليه من حب المال ويعرف أهميته في حياة الناس ولذلك طلب منهم أن يؤتوا حقه يوم حصاده وأن يتصدقوا ، ونجد أن كل الآيات التي حرمت الربا قد سبقها حثٌ على الإنفاق في سبيل الله وعلى التصدق بإعتبار أن ذلك هو البديل، ومع ذلك نهانا الله عن التبذير في الإنفاق أو تبديد الأموال وأمرنا ألآ نؤتيها السفهاء.
وبعد ، فإنني أعتذر للقراء لأني أطلت على غير العادة ، فقد كان الموضوع يستحق الإطالة حتى تتضح الصورة ، وأزعم أنه لا يزال هنالك الكثير مما يمكن إضافته ، وخاصة من النواحي الاقتصادية التي لم نتوقف عندها كثيراً. ومن يبحث عن المزيد فبإمكانه الرجوع إلى المقالات المنشورة في موقعي على الإنترنت