إذا عُرض لك رأي مخالف لما تعرفه وتؤمن به فإنك غالباً ما ترفضه ولا تتوقف عنده كثيراً ولا تُعير صاحبه التفاتة ، ولكن أن يصدر مثل هذا الرأي عن عالم موثوق بعلمه ، فإنك لا تملك أن تفعل ذلك وربما رحت تبحث في المراجع عن إجابة تشفي ظمأ المعرفة لديك ، فإن لم تجد فلا مناص عندئذٍ من التوجه إلى العالِم لمناقشته في رأيه هذا لعله لا يبخل عليك بالإجابة.
وقد حدث معي شيءٌ من هذا القبيل وأنا أقرأ في الإسبوع الماضي رد أحد كبار العلماء على سعادة الشيخ محمد بن حمد في موضوع الفوائد البنكية ، فقد قال فضيلته إن هناك دليلان شرعيان مؤكدان يحرمان تحديد الأرباح مقدماً في عقد المضاربة أولهما : الإجماع ، وثانيهما ما ورد في الأحاديث الصحاح عن المزارعة. ولأن علماء آخرين قد نفوا وجود أدلة فإن الأمر قد إستحوذ على إهتمامي وقررت البحث فيه والكتابة بما أعرفه في هذا الموضوع لعلنا نصل بالنقاش إلى نقطة إلتقاء حوله. ويمكن عرض الموضوع على النحو التالي :
أولاً : أنه لا يوجد في القرآن الكريم ولا في السُنَة المطهرة أي حكم لهذه المسألة ، ومن ينظر في كتب الفقه سيجد أن العلماء أغفلوا الحديث عن مشروعية المضاربه لعدم وجود نصوص بشأنها في حين فعلوا ذلك مع أبواب أخرى كالبيع والإجارة والمزارعة والقرض والرهن وغيرها. والغريب أن العرب قد عرفوا المضاربة في الجاهلية ، وضارب الرسول الكريم بنفسه لخديجة رضي الله عنها ، بمالها ومع ذلك لم يصدر عنه أي حديث بشأن المضاربة ، ولذلك اشتق العلماء أحكام المضاربة من معاملات حدثت في عهد الصحابه وبالقياس على أمور أخرى.
ثانياً : أن العلماء قد حرموا تحديد مقدار معين من الأرباح في المضاربة بالقياس على أحاديث المزارعة ومنها كنا نكري الأرض بالناحية منها تُسمى لسيد الأرض – أي صاحبها – فربما يُصاب ذلك وتسلم الأرض وربما تصاب الأرض ويسلم ذلك ، فنُهينا. وفي حديث آخر أن النبي عندما جاء الى المدينة سأل أهلها ما تصنعون بمحاقلكم – أي مزارعكم – قالوا نؤجرها على الرُبع ، وعلى الأوسق من التمر والشعير ، قال : لا تفعلوا . والواضح أن العلماء قد قاسوا المضاربة على المزارعة بمظنة أن علة القياس في النوعين واحدة وهي: أن اشتراط قدر معين من الربح لأحد طرفي المزارعة (أو المضاربة) قد يكون فيه غرر بطرف دون آخر. وهذه العلة وإن وُجِدَت في المضاربات المعتادة فإنها لا توجد في مضاربات البنوك الإسلامية ، حيث يكون البنك قادراً على تحديد معدلات أرباحه من المتمولين على ضوء معدلات الفائدة في السوق ، ويكون لدى البنك القدرة على تحصيل ديونه من المتخلفين عن السداد بقوة القانون ، ويستعين بالمخصصات من الأرباح في مواجهة حالات الإعسار ، بل إنه في حالة حدوث خسائر كبيرة غير متوقعة فإن البنك يحصل غالباً على مساندة كبيرة من البنك المركزي حتى يخرج من أزمته. هذه الإختلافات الجوهرية في العلة بين المضاربات بأشكالها المعتادة ومضاربات البنوك الإسلامية تُفقد القياس منطقه فلا يعد له معنى وبالتالي لا يمكن تعديته إلى مضاربات البنوك الإسلامية.
ثالثاً : وبإفتراض قبول القياس على أعمال البنوك الإسلامية فإن هذا القياس لا يمكن تعديته لأعمال البنوك التجارية ، فكما يقول ابن المنذر إذا جعل أحد طرفي المضاربة أوكلاهما لنفسه دراهم معلومة بطلت المضاربة. وطالما أن البنوك التجارية تُعطي لصاحب المال عائداً محدداً على رأسماله فإنها لا تعتبر مضاربة أصلاً.
رابعاً : أنه رغم كُثرة من قاسوا المضاربة على المزارعة فإن عددهم لا يصل إلى حد اعتبـاره إجماعاً ، فقد حدد علماء الأصول اركاناً للإجماع بحيث لا يمكن انعقاده بدونها. وقال الشيخ عبد الوهاب خلاف :إن الاجماع لم ينعقد فعلاً في عصر من العصور ، وأن ما يشار إليه على إنه إجماع في مسألة ما، إنما كان اتفاقٌ من الحاضرين من أولي العلم والرأي على حكمٍ في الحادثة المعروضة. ولقد قال ابن المنذر في موضوع المضاربة : (أجمع كل من نحفظ عنه) ، ولم يقل: (أجمع المسلمون) أولم يقل: ( أن هناك إجماع..) ، ونقل عبد الله بن حنبل عن أبيه قوله : (من ادعى الإجماع فهو كاذب ، لعل الناس قد اختلفوا ولم ينته إليه اختلافهم ، فليقل لا نعلم الناس قد اختلفوا).
الخلاصة :
يتبين مما سبق بيانه أعلاه أنه لا توجد نصوصٌ من القرآن والسنة تحرم تحديد العائد مقدماً ، ورغم أن المضاربة كانت معلومة منذ سنوات الجاهلية ومعلومة للنبي بوجه خاص ، فإنه صلوات الله عليه لم يتحدث في موضوع المضاربة لا من قريب ولا من بعيد. وقد اجتهد العلماء للبحث عن أحكام للمضاربة ، فقاسوا عليها ما قال به الرسول الكريم في المُزارعة انطلاقاً من تساوي العلة في الأمرين. ورغم كُثرة من قالوا بهذا القياس إلا أن عددهم لا يصل إلى إجماع أمة ، وفي كل الأحوال ، فإن هذا القياس لا يصح تعديته إلى مضاربات البنوك الاسلامية التي اختلفت كثيراً عن المضاربات المعتادة عند المسلمين الأوائل ، حيث لا توجد شبهة للغرر بين المودعين والبنك ، والأهم من ذلك أن أعمال البنوك التجارية ليست من أعمال المضاربة حتى يقاس عليها النهي المأخوذ من المزارعة ، وبالتالي لا نجد هناك ما يمنع تحديد العائد على رأس المال مقدماً ، بل هو جائز شرعاً وقد قال بعض العلماء بذلك وزاد الشيخ طنطاوي بأنه في زمن فسدت فيه الذمم ، اصبح التحديد أقرب الى روح الإسلام وعدله ، والله ورسوله أعلم.