لم يكد الأمريكيون والبريطانيون يحتلون العراق في أبريل من العام الماضي، حتى كانت أسعار النفط تهوي من اعلى مستوى وصلت إليه مع بداية الغزو، إلى نحو 24 دولاراً لبرميل الأوبك. وقد حدث التراجع في حينه استناداً إلى توقعات مفادها أن انتاج العراق من النفط سرعان ما سيرتفع إلى أعلى مستوى ممكن بفضل التكنولوجيا الغربية وزوال الحصار عن العراق، وأن ذلك كفيل بإغراق أسواق النفط العالمية بفيض الإمدادات، ومن ثم فقد بدا لبعض الوقت أن دواعي القلق قد زالت ولم يعد هناك مبرر للتهافت على شراء النفط وتخزينه، فانخفضت الأسعار على النحو المشار إليه. ولكن هذا الوهم سرعان ما تبدد بعد شهر واحد فقط مع تصاعد عمليات المقاومة المسلحة ضد المحتلين، وبعد أن تبين للواهمين أن انتاج النفط العراقي لن يعود إلى سابق عهده قبل الغزو –وهو 2.5 مليون برميل يومياً- قبل نهاية العام 2003.
ورغم أن دول الأوبك الأخرى قد بذلت ما في وسعها لتعويض الأسواق ما أمكن عن النفط العراقي، إلا أن مشكلة أخرى كانت بانتظار المستهلكين في الولايات المتحدة؛ فقد أدى نقص الانتاج من البنـزين وانخفاض مخزوناته، إلى عودة القلق إلى أسواق النفط، وارتفعت الأسعار ثانية شهراً بعد شهر إلى أن وصلت في نيويورك هذا الأسبوع -وبعد عام من الاحتلال- إلى قرابة الأربعين دولاراً للبرميل لنفط غرب تكساس، ونحو 36 دولاراً لنفط الأوبك. ولا يزال انتاج النفط العراقي دون مستواه قبل الغزو، بما يعنيه ذلك من ضياع مئات الملايين من براميل النفط على الأسواق سنوياً، كما أن مخزون البنـزين في الولايات المتحدة هذا العام لا يزال دون مستواه في العام الماضي نسبة 4.1%.
ورغم التصريحات المهدئة التى خرج بها وزير النفط السعودي قبل يومين ومطالبته بزيادة انتاج دول الأوبك من النفط، إلا أن هذه التصريحات لن تكون كافية لإعادة سعر برميل النفط دون الثلاثين دولاراً للبرميل في القريب العاجل وذلك لأكثر من سبب، منها أن إنتاج دول الأوبك يجري بالفعل قريباً من أعلى مستوى له، وبالتالي لا يوجد عند الأوبك ما تستطيع تقديمه في هذا المجال، ومنها أن مشكلة مخزون البنـزين سوف تظل قائمة بسبب زيادة الطلب في الولايات المتحدة من ناحية ولعدم وجود فائض عالمي من هذا المنتج بعد الزيادة المضطردة في الاستهلاك في دول مثل الصين والهند، وبسبب الحرائق التي عطلت انتاج المصافي في دول مختلفة.
وإذن فقد انقلب السحر على الساحر، وبدلاً من أن يكون الإستيلاء على النفط العراقي مدخلاً لزيادة الإنتاج منه وتعويض الحلفاء عن نفقات الغزو وازدهار الاقتصاد الأمريكي إلى الحد الذي يسمح للرئيس بوش بولاية ثانية في البيت الأبيض، إذا بانتاج النفط العراقي يتعثر والأسعار في الذروة والعجز في الميزان التجاري الأمريكي عند مستويات قياسية، وعجز الموازنة العامة يقترب في سنة الانتخابات من نحو 600 مليار دولار، ومعدل التضخم يواصل ارتفاعه للسنة الثانية على التوالي، ومعدل البطالة رغم تحسنه في الشهور الأخيرة لا يزال عند 5.6% مقارنة بـ 4% في أواخر عهد الرئيس كلينتون.
على أن ارتفاع أسعار النفط على هذا النحو واحتمال ارتفاعها فوق الأربعين دولاراً للبرميل إذا ما استمرت الأوضاع المضطربة في منطقة الشرق الأوسط لهو أمر خطير يجب التنبه له جيداً والعمل على تفاديه بكل السبل الممكنه. وعلى دول الأوبك أن تعمل ما في وسعها إعلامياً لبيان عدم مسؤوليتها عن هذا الإضطراب الحاصل في الإمدادات، وأنها تنتج بكل ما لديها من طاقات.
إن ارتفاع أسعار النفط بشدة له تأثير سيئ على الاقتصاد العالمي، ويؤدي إلى تراجع في النمو وانخفاض في الطلب على النفط في الأجل المتوسط، كما يؤدي في الزمن القصير إلى ارتفاع معدلات التضخم عالمياً. كما أن لارتفاع أسعار النفط مضامين سياسية خطيرة على مختلف الأصعدة، ونرجو لذلك أن تنجح الأوبك في وضع استرتيجية جديدة لتسعير النفط ليتراوح ما بين 26-32 دولاراً للبرميل بدلاً من التخبط الذي ساد الساحة في الآونة الأخيرة ما بين قرارات بتخفيض الانتاج ومطالبات بالسماح للدول الأعضاء بالانتاج كيفما شاءت !!