بقلم بشير يوسف الكحلوت
عودة مرة أخرى إلى موضوع التضخم وهو من الموضوعات الهامة التي تستقطب اهتمام شريحة واسعة من الاقتصاديين والخبراء في القطاع الحكومي والجهاز المصرفي وقطاع الأعمال. وأجد أنه بعد سنوات حلق فيها المعدل عالياً ووصل إلى قرابة 16.5% في الربع الثاني من العام 2008، إذا به ينخفض فجأة مع تداعيات الأزمة العالمية إلى أقل من الصفر في الربع الأول، ثم يرتفع في شهر مايو إلى 3.9%، ولكنه سرعان ما تباطأ ثانية في شهر يونيو إلى 1.58% فقط على معدل سنوي. فما دلالة ذلك ومدى صحة ما توقعته مجموعة هيرمس المالية يوم الخميس الماضي من أن يكون معدل التضخم سلبياً في قطر في متوسط عام 2009؟؟
وأسارع إلى القول بأن معدل التضخم لشهر يونيو البالغ 1.58% هو رقم غير مُعلن رسمياً، إذ لم أجده على موقع جهاز الإحصاء على الإنترنت، وإنما كان هناك بيان إحصائي بالتطور الحاصل في الرقم القياسي لأسعار المستهلكين في شهر يونيو 2009 مقارنة بالشهور الخمسة الأولى من العام. وكما ذكرت في مقالات سابقة فإن قياس التغير في الرقم القياسي المذكور عن الشهر أو الربع السابق لا يعطينا معدل التضخم، فهذا المعدل لا ينتج إلا عند مقارنة الرقم في شهر معين بالرقم المناظر له في نفس الشهر من السنة السابقة بشرط أن ينتمي الرقمان لسنة أساس واحدة. ولأن سنة الأساس للأرقام الجديدة هذا العام قد تم تعديلها إلى سنة 2006، في حين أن رقم يونيو من العام الماضي كان مسنوداً لسنة 2001، لذا لا يمكن اشتقاق معدل التضخم إلا إذا تمت معالجة رقم شهر يونيو 2008 إحصائياً بإسناده إلى سنة الأساس الجديدة 2006، وهو ما قمت به شخصياً. وقد تم الأمر وفق خطوات مدروسة أخذت في الإعتبار مقدار التعديل في الأرقام القياسية ما بين سنة الأساس القديمة والجديدة، وكذلك التغير الهام الذي طرأ على أوزان مجموعات السلع والخدمات، وبخاصة رفع وزن مجموعة السكن إلى 32.15% بدلاً من20.72%، وخفض وزن مجموعة الغذاء والمشروبات إلى 13.22% بدلاً 18.12%.
وعليه يمكنني أن أقرر للقراء الأعزاء بأن معدل التضخم في قطر في شهر يونيو قد تباطأ إلى 1.58% مقارنة بـ 3.9% في شهر مايو، فما دلالة هذا الرقم وما أهميته للاقتصاديين والنقديين؟
يمكن القول بادئ ذي بدء أن تباطؤ معدل التضخم في قطر إلى هذا المستوى المنخفض قد أعاد المعدل إلى مستوياته التي كان عليها في سنوات ما قبل الطفرة الأخيرة، أي ما قبل عام 2003، ففي الفترة ما بين 1998 -2002 كان معدل التضخم في حالة تراجع تدريجي سنة بعد أخرى بحيث انخفض من 2.9% في عام 1998 إلى أقل من ربع بالمائة عام 2002. وهذه العودة إلى المستويات المنخفضة تُعد تطوراً إيجابياً إذا ما علمنا أن الحكومة القطرية ومصرف قطر المركزي قد عملا في السنوات الماضية من أجل كبح جماح التضخم الذي انفلت من عقاله منذ العامين 2003 و 2004، وأدى انفلاته إلى نتائج سلبية على الاقتصاد القطري بكافة قطاعاته. ويعرف القارئ العزيز أن الارتفاع الكبير في معدل التضخم قد أدى إلى حالة من عدم الاستقرار المالي والنقدي في البلاد فتتضررت الاستثمارات وارتفعت تكلفة المشروعات، وانخفضت القوة الشرائية للعملة المحلية ونشأت ضغوط على سعر صرف العملة، وما إلى ذلك من آثار سلبية عايشناها في الفترة من عام 2004-2008. وإذن فإن العودة إلى مستوى منخفض للتضخم يعني العودة قريباً من الحالة الطبيعية التي يمكن للمستأجر فيها أن يطمئن على عدم ارتفاع القيمة الإيجارية لمسكنه أو محل تجارته ومصدر رزقه بدون ضوابط. وفيها أيضاً يطمئن المقاول أو المستثمر إلى أن مشروعاته لن تُصاب بالخسائر الجسيمة نتيجة لارتفاع التكلفة بأكبر مما قدر عند التخطيط للمشروع. ويطمئن صاحب العمل سواء في القطاع العام أو الخاص إلى أنه لن يضطر إلى رفع قيمة المرتبات أو المخصصات لموظفيه وعند الحصول على الخدمات اللازمة لأنشطته بشكل غير متوقع، وغير مبرر.
على أنني أسارع إلى القول بأن تباطؤ الرقم بأكثر مما ينبغي أو تحوله إلى رقم سالب هو أمر غير محمود العواقب وغير مطلوب باعتبار أنه يعكس حالة من الجمود والتراجع في مستوى النشاط الاقتصادي في البلاد. فعندما كان معدل التضخم سالباً في الربع الأول كان النشاط الاقتصادي معبراً عنه بالناتج المحلي الإجمالي في حالة تراجع وانكماش، وقد رأينا كيف تدخلت الحكومة القطرية مشكورة لدعم الاقتصاد وتخليصه من تداعيات الأزمة المالية العالمية، وكان من نتيجة ذلك أن عادت الحياة لتدب في أوصال الاقتصاد القطري بدءاً من الجهاز المصرفي، وانتهاءً بأداء سوق الأوراق المالية، فتحسنت أرقام عرض النقد، وموجودات البنوك، وارتفع مؤشر السوق، وزادت القيمة الرأسمالية للأسهم بعشرات البلايين من الريالات. وفيما يخص عرض النقد الواسع نجد أنه عاد للارتفاع إلى مستوى 188.2 مليار ريال بعد أن كان قد هبط منذ بداية السنة إلى 176.8 مليار، وإن كان الرقم لا يزال دون مستواه المناظر في يونيو 2008 عندما وصل إلى 197.1 مليار ريال.
تظل نقطة أخيرة تتعلق بالمجموعات الفرعية لمعدل التضخم، فإذا كان المعدل قد ارتفع بما نسبته 1.58% في شهر يونيو مقارنة بيونيو 2008، فإن هذه الزيادة المحدودة هي في واقع الأمر محصلة لعدم حدوث زيادة في القيمة الإيجارية للمساكن ومتعلقاتها خلال الفترة المشار إليها(أي ما بين يونيو 2008 ويونيو 2009)، وانخفاض الرقم الخاص بمجموعة النقل والمواصلات بما نسبته 1.44%، وهاتان المجموعتان تشكلان معاً نحو 52.5% من الوزن الترجيحي لسلة مجموعات السلع والخدمات التي يقوم عليه الرقم.وسجلت المجموعات الأخرى زيادات متفاوتة بلغت 3.4% في مجموعة الغذاء والمشروبات و 0.43% لمجموعة الملابس والأحذية، وأقل من 0.1% للأثاث والمنسوجات و 6.81% لمجموعات التسلية والترفيه و 8.46% للسلع والخدمات المتفرقة.
وإذا استمر معدل التضخم في النصف الثاني من العام موجباً- وهو أمر متوقع في ظل تحسن النشاط الإقتصادي_ فإن معدل التضخم المتوسط لعام 2009 سيكون موجباً وبما لا يقل عن 2% وذلك على عكس التوقعات التي نشرتها مجموعة هيرمس المالية يوم الخميس الماضي بأن يكون المعدل في متوسط عام 2009 سلبياً وفي حدود -4.6% .
وبعد فقد كانت هذه وجهة نظري الشخصية استناداً إلى الحسابات الإحصائية التي قمت بها على الأرقام الصادرة عن جهاز الإحصاء، والله نسأل للجميع التوفيق والسداد والخير كل الخير لقطر العزيزة.