متى ننتقل إلى مصاف الدول االناشئة؟

حققت دولة قطر وشقيقاتها في دول مجلس التعاون على مدى العشر سنوات الماضية نمواً اقتصادياً بمعدلات عالية، وارتفعت معها مستويات الرعاية الصحية إلى مثيلاتها في الدول المتقدمة، مما حدا بالبعض أن يتساءل عما إذا كانت دول التعاون قد اقتربت من الانعتاق من وصفها بالنامية، أو أنها اقتربت من الانتقال إلى مصاف الدول المتقدمة أو الناشئة؟

وفي الإجابة على هذا التساؤل نقول إن الأمر ليس بمثل هذه البساطة، وأنه لا بد من تنويع الاقتصادات الخليجية وعدم بقائها معتمدة على مصدر واحد أو مصادر محدودة للدخل حتى ينطبق عليها الوصف. ولقد سبقتنا دول أخرى كالصين والهند والبرازيل في الارتقاء إلى مرتبة الدول الناشئة لأنها حققت مثل هذا التنوع في اقتصاداتها، وباتت اليوم قادرة على تحقيق معدلات تنمية حقيقية ومستدامة، فأين موقع الاقتصادات الخليجية على خارطة التصنيفات الدولية؟

ويتطلب الانتقال إلى مصاف الدول الناشئة ما هو أكثر من مجرد امتلاك مظاهر الحضارة الحديثة، ويتجاوز ذلك إلى بناء القدرة الذاتية لامتلاك ناصية المعرفة التقنية. ولن يكون ذلك إلا بالتوسع في الإنفاق على البحث والتطوير، وعلى إقامة المعاهد الفنية والكليات العلمية التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً باحتياجات قطاع الصناعة. وإذا كانت الدول المتقدمة تنفق ما يتراوح ما بين 2-3% من دخلها السنوي على البحث والتطوير، فإن النسبة تنخفض في الدول النامية ومن بينها بعض الدول الخليجية إلى ما هو أدنى من ذلك بكثير بحيث لا تصل في كثير منها إلى النسبة التي حددتها اليونسكو وهي 1% سنوياً. (يقتضينا الإنصاف القول بأن النسبة في قطر قد ارتفعت في السنوات الأخيرة إلى أكثر من 2% حسب بعض التقديرات، وأن ذلك جاء كنتيجة لتركيز مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع على برامج ترتبط باستراتيجية البحث العلمي، حيث باشرت المؤسسة مشروعاً طموحاً من خلال التعاون مع العلماء العرب في الخارج لإنشاء معاهد نوعية قطرية للبحوث في العلوم الحيوية الطبية، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والطاقة، والبيئة).

على أن الزيادة في الإنفاق على البحث والتطوير لن تتحقق بمجرد توفير الاعتمادات المالية اللازمة لذلك فقط، وإنما لا بد من توفير البنى التحتية والأجواء اللازمة لنجاح تلك الأبحاث، وانتقالها من أدراج المعامل والمعاهد إلى حيز التطبيق العملي والفعلي في المصانع لإنتاج سلع جديدة ومتطورة، لا للاستهلاك المحلي فقط وإنما للتصدير إلى الأسواق الإقليمية والعالمية، في ظل ما أتاحته اتفاقيات التجارة الدولية من حرية لدخول أسواق الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية.

وإذا ما نظرنا إلى واقع الحال في دول مجلس التعاون، سنجد أنها لا زالت توصف بأنها دول نامية انطلاقاً من أنها دول مستهلكة من الطراز الأول، دون أن يكون معظم ما تستهلكه من إنتاجها المحلي. فالسيارات والطائرات والأجهزة والمعدات والحواسيب والطابعات والقرطاسية ومستلزمات التعليم، وكثير من مستلزمات البناء الحديث، والتجهيزات المنزلية، والأدوية والأجهزة الطبية، ومستلزمات الأمن والدفاع، والملابس، والمنتجات الغذائية المصنعة، وغيرها يتم استيرادها من الدول الأخرى في الشرق والغرب، والقليل من ذلك فقط يتم إنتاجه في دولنا الخليجية.

وحتى عندما دخلت دول التعاون إلى المجال الصناعي، فإنها قد فعلت ذلك من باب الرغبة في الاستفادة من الموارد الطبيعية المتاحة لديها وخاصة الغاز الطبيعي، فأقامت على مدى العقدين أو الثلاثة الماضية مجمعات ضخمة للأسمدة الكيماوية والبتروكيماويات والألومنيوم والحديد، ومصانع الوقود النظيف. وهي قد نجحت اليوم في أن تحتل المراكز الأولى بين المنتجين في العالم لبعض من هذه المنتجات كاليوريا والأمونيا. ولكن ذلك كله لم يكن كافياً لتحويلها إلى دول متقدمة أو حتى ناشئة، بل أعطاها فقط صفة المستثمر الجيد، الذي يستغل إمكاناته المادية بطريقة أفضل، وبما يعود عليه بعوائد مادية ومجتمعية كثيرة. وفي المقابل فإن هذه المصانع الخليجية معرضة للتقادم سنة بعد أخرى، ومنتجاتها قد تفقد أسواقها تدريجياً إذا ما ظهرت منتجات مماثلة بمزايا وخصائص جديدة، أو إذا تم إنتاج البدائل بتقنيات حديثة تجعلها أقل تكلفة، وذلك يتطلب استثمارات جديدة، وهو ما يُبقي صفة المستثمرين على دول المجلس، ولكنه لا ينقلها إلى مصاف الدول المتقدمة مهما تعددت الصناعات أو كبر حجمها.

من هنا يجب التمييز بين حالة نكون فيها دولا نامية بإمكانيات مادية عالية تضعنا في مقدمة المستهلكين (من حيث معدلات الاستهلاك للفرد الواحد)، وفي قائمة المستثمرين المعتبرين في العالم، وبين أن نكون دولاً متقدمة أو ناشئة لديها القدرة على البقاء وتحقيق النمو المستدام في مرحلة ما بعد نضوب النفط. هذا الوضع الثاني هو ما تسعى الدول الخليجية إلى تحقيقه من خلال تطوير العملية التعليمية في المستويين العام والجامعي ومن خلال التركيز على بناء القدرات في مجال البحث والتطوير (كإنشاء واحة للتكنولوجيا في قطر) وبزيادة الإنفاق على البحث العلمي، وتشجيع المشاركة بين القطاع العام والقطاع الخاص في هذا المجال.

ولقد صدر عن مؤتمر الصناعيين الثاني عشر الذي انعقد في الأسبوع عدد من التوصيات التي تدعم هذا الاتجاه ومنها: تشجيع التعاون بين الشركات الصناعية والجامعات ومراكز البحث العلمي، بحيث تسعى الشركات للحصول من الإنتاج العلمي للجامعات ومراكز الأبحاث على ما يساعدها على تطوير أعمالها أو الوصول إلى منتجات جديدة، دون الاعتماد في ذلك كلياً على الإنتاج العلمي للشركات ومراكز الأبحاث الأجنبية.

ومن المؤكد أنه إذا ما توافر المناخ اللازم للإبداع والابتكار في دول المجلس، وإذا ما وجدت المبتكرات طريقها للتطبيق العملي، فإن العجلة سوف تدور بما ينقل دول المنطقة إلى مصاف الدول الناشئة.