لا زال حديثي ممتداً عن أسباب ضعف مستويات السيولة في الجهاز المصرفي، وهو الأمر الذي أثر سلباً على حجم التداول في بورصة قطر فكان أن تراوحت الأسعار مكانها بل وهبطت وهبط معها المؤشر دون مستوى 6800 نقطة، في وقت كانت فيه الأسعار مرشحة للارتفاع في موسم الإعلان عن توزيعات الأرباح. وقد تصادف أن التقيت في الأيام الماضية بإثنين من الأخوة القطريين المخضرمين أحدهما صديق قديم يشغل حالياً مدير إحدى الشركات الكبيرة، والآخر موظف متقاعد من قطر للبترول وقد ناقشا معي كل على حدة موضوع ضعف السيولة، وأشارا إلى ضرورة الحديث عن تعاظم مديونيات الأفراد، والقطريين منهم على وجه الخصوص باعتبار أن ذلك أحد الأسباب التي أدت إلى فقدان قدرتهم وشهيتهم للتعامل في البورصة. ولأن تنامي القروض الاستهلاكية والتمويل للأفراد من البنوك الإسلامية كان يمثل ظاهرة متعارف عليها في السنوات الأخيرة، فإن البحث مجدداً في جوانب هذه الظاهرة يستحق الاهتمام لمعرفة تطورها وما إذا كانت بالفعل قد تعاظمت أم أنها على العكس من ذلك تراجعت، وبالتالي نبحث في العلاقة بينها وبين حجم التداول في البورصة.
وقد كانت نقطة البداية في الموضوع أن نبحث في نشرات مصرف قطر المركزي وفي الميزانية الشهرية المجمعة للبنوك، لنتتبع تطور القروض الاستهلاكية من جهة، وتطور نسبتها إلى إجمالي الائتمان المحلي في السنوات الأخيرة من جهة أخرى. وقد تبين من البحث ما يلي:
• أن إجمالي القروض الشخصية قد تضاعفت أربع مرات في أربع سنوات من 14 مليار ريال في نهاية عام 2004 إلى 56.8 مليار في نهاية عام 2008، وذلك قبل أن تتراجع في نهاية عام 2009 إلى 53.2 مليار ريال. ويمكن أن يُعزى الارتفاع الكبير في الفترة الأولى إلى حُمى الاكتتابات التي ألهبت أرباحها السريعة مشاعر الجمهور فأقبلوا عليها بكل ما أمكنهم الحصول عليه من مال للاستفادة مما وفرته الاكتتابات من فرص للربح السريع والمضمون. ثم استقطبت سوق الأسهم جزءً من تلك الأموال المقترضة بدلاً من أن تعود إلى البنوك بعد انتهاء الاكتتابات. كما يمكن تحميل القروض والتمويلات لأغراض المتاجرة في الأراضي والعقارات، جزءً مهماً من تنامي القروض الاستهلاكية حتى عام 2008. وعندما توقفت الاكتتابات أو خفت حدتها في الأعوام الثلاثة الأخيرة، وبعدما أصاب الركود قطاع العقارات، فإن من المنطقي، أن تتراجع القروض الاستهلاكية على نحو ما أشرنا.
• أن نسبة القروض الاستهلاكية إلى إجمالي الائتمان المحلي قد كانت في ارتفاع مستمر في الفترة حتى عام 2006 عندما وصلت في نهاية العام المذكور إلى 37.1% مقارنة بـ 36.7% في نهاية عام 2005، وما نسبته 29.2%في عام 2004 .ولكن النسبة عادت إلى التراجع بشكل متسارع بحيث أنها انخفضت إلى 32.2% في نهاية عام 2007، وإلى 25.7% في نهاية عام 2008، ثم إلى 21.1% في نهاية عام 2009. ولأن إجمالي الائتمان المحلي ظل في حالة نمو –باستثناء فترة محدودة بتأثير تداعيات الأزمة المالية العالمية- لذا فإن هذا الانخفاض المتسارع في نسبة القروض الاستهلاكية، يمكن تفسيره باتجاه البنوك إلى التوسع في الائتمان الموجه لقطاعات أخرى كالقطاع العام.
• أن القروض الاستهلاكية قد انخفضت بنحو 6.6 مليار ريال أو 11% في شهر واحد ما بين نوفمبر وديسمبر 2009 لتصل إلى 53.2 مليار ريال، وفق ما ورد في الميزانية الشهرية المجمعة للبنوك لشهر ديسمبر 2009.
والخلاصة: أن البحث في هذه النقطة يقودني إلى استنتاج عكس ما سمعته من الأخوين وما أشرت إليه في بداية المقال، بحيث يمكنني القول أن المديونيات الشخصية للأفراد قد تراجعت كرقم مطلق في عام 2009، وأنها كنسبة من إجمالي الائتمان المحلي قد بدأت في التراجع منذ نهاية عام 2006. وهذا التراجع هو نتيجة منطقية لحالة الركود التي أصابت سوقي الأسهم والعقارات مع تراجع الاهتمام بعمليات الاكتتاب بعد أن مُنِيَّ المكتتبون (المقترضون) خسائر كبيرة من اكتتابهم في بعض الشركات مؤخراً.
وبمعنى آخر فإن تراجع القروض الشخصية هو الذي أضعف السيولة المتاحة وقلص حجم التداول في البورصة، ولكن الخسائر التي لحقت بالكثيرين من جراء وقوعهم في مصيدة التغير المفاجئ في اتجاهات الأسعار بقطاعي العقارات والأسهم قد أشعرت القوم بضخامة المديونيات، واتساع الظاهرة. فعندما يكون في مقابل القروض، عقارات أو أسهم تتزايد أو حتى تتضاعف قيمها والعوائد منها، فإن المقترضين يكونون بخير ولا يشعرون بحرج من تنامي قروضهم، أما عندما ينقلب الحال وتتراجع قيم العقارات والأسهم والعوائد منها، فإن القروض تصبح مصدر هم لأصحابها، وتغدو الفوائد المدفوعة استنزاف لقدراتهم وطاقاتهم، خاصة عندما تظل معدلات الفائدة المحلية مرتفعة جداًً رغم أن معدلات الفائدة العالمية عند أدنى مستوياتها تاريخياً. وقد ينقلنا هذا إلى استنتاج أهمية البحث عن حلول لمشاكل الأفراد المقترضين، وعدم التوقف فقط على جهود إنقاذ البنوك والشركات المساهمة من تداعيات الأزمة المالية العالمية. وإذا كانت برامج الإنقاذ الأولى مطلوبة وضرورية لوقف زحف التداعيات وتأثيراتها الضارة، فإن البرامج الثانية تصبح ملحة لتخفيف معانات المتضررين والإبقاء على تواصلهم مع اقتصاد ينمو بأعلى المعدلات في العالم