قد يتبادر إلى ذهن بعض القراء أن هناك نوع من التضارب في البيانات التي تعكس وضع الاقتصاد القطري وخاصة فيما يتعلق بمعدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي-أو نمو الاقتصاد- ومعدلات التضخم، ومعدلات نمو السيولة المحلية المعروفة إصطلاحاً بعرض النقد الواسع في الجهاز المصرفي. فإذا كان المتعارف عليه في علم الاقتصاد أن النمو الاقتصادي يصاحبه في العادة ارتفاع ولو محدود في معدل التضخم وزيادة في السيولة المحلية، فكيف يحقق الاقتصاد القطري أعلى معدلات النمو الاقتصادي في العالم، ومع ذلك يسجل الاقتصاد انخفاضاً في معدل التضخم (أي تراجعاً في المتوسط العام للأسعار) بنسبة تزيد عن 5 بالمائة في عام 2009، مع حدوث ارتفاع محدود في السيولة المحلية؛ يقل عن نصف المعدل المناظر في عام 2008؟؟؟
وأسارع إلى التذكير بأنه في الأعوام السابقة لعام 2009، كانت الأرقام الثلاثة منسجمة مع بعضها البعض؛ ففي حين حقق الاقتصاد القطري ارتفاعاً كبيراً في معدل النمو في عام 2008، كان معدل التضخم يزيد في نهاية العام عن 10%، وترتفع السيولة بمعدل يزيد عن 27%. وذلك الإنسجام بين الأرقام أمر مفهوم ومنطقي، إذ طالما هناك نمو مرتفع، فإن ذلك يقابله زيادة كبيرة في المعروض النقدي (أي السيولة المحلية)، ويؤدي ذلك بدوره إلى زيادة في الطلب على السلع والخدمات بأكثر من نمو المعروض منها، فترتفع الأسعار، ويزداد معدل التضخم.
وقد تغير الحال في عام 2009 وحدث تراجع في أسعار النفط والغاز بأكثر من 30 بالمائة في المتوسط، ونتج عن ذلك انخفاض في ناتج قطاع النفط والغاز بالأسعار الجارية، وفي نواتج بعض القطاعات الأخرى كقطاع الصناعة التحويلية وقطاع المال والتأمين والعقارات، وقطاع المواصلات والاتصالات، وقطاع التجارة. ووفقاً لبيانات إدارة الاحصاء المتاحة على الموقع الإلكتروني، فإن الناتج المحلي القطري بالأسعار الجارية قد تراجع بما نسبته 28.3% في الشهور التسعة الأولى من العام 2009، وأنه من المقدر لذلك-حسب تقديراتي الشخصية- أن لا يزيد الناتج في عام 2009 كثيراً عن 300 مليار ريال مقارنة بـ 365.5 مليار في عام 2008، أي بانخفاض إسمي نسبته 18%.
هذا التراجع الكبير في النمو الإسمي لعام 2009، ينسجم مع انكماش الأسعار بنسبة 5.2%، ومع تباطؤ نمو عرض النقد إلى ما نسبته 13% فقط، وينسجم مع الثلاثة أشياء كثيرة منها تراجع أرباح الشركات، وانخفاض الأسعار والمؤشر في بورصة قطر، وتراجع أسعار العقارات، وانخفاض الإيجارات، وتباطؤ نمو الائتمان المحلي من البنوك، وتعثر بعض المشروعات وتزايد الدعاوى المرفوعة أمام المحاكم لأسباب مالية.
ولكن في المقابل نجد أن هناك زيادة حقيقية(أي فى حجم الناتج أو كمياته) في كل من الغاز الطبيعي والغاز المسال، ومن نواتج قطاعات أخرى كالكهرباء والماء، والتشييد والبناء والخدمات الحكومية والزراعة. هذه الزيادات الحقيقة، مع تثبيت كافة الأسعار لكل القطاعات-أي حسابها بأسعار سنة الأساس للعام 2006- يلغي التراجع الحاصل في الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية، وينتج عنه زيادة في الناتج بالأسعار الثابتة، ونمواً يطلق عليه النمو الحقيقي بما يزيد عن 10%، وقدرته مصادر مختلفة كصندوق النقد الدولي بـ 15%.
وعلى ذلك فإنه لا يوجد تناقض بين ما يُنشر من توقعات للنمو الاقتصادي في قطر بالأسعار الثابتة، وبين ما تعلنه إدارة الإحصاء من أرقام سالبة للنمو الاقتصادي على صفحات موقعها على الإنترنت. وفي حين تنسجم أرقام النمو الإسمي(بالأسعار الجارية) مع انكماش الأسعار، وتباطؤ نمو السيولة المحلية وبقية الظواهر الأخرى المشار إليها، فإن أرقام النمو الحقيقي للاقتصاد، تظل هي الأهم باعتبار أنها تشكل ضمانة لعودة الأمور إلى الاستقرار والإنسجام في عام 2010. وقد كنت قد كتبت قبل عدة أسابيع مقالة بعنوان رؤية كلية للاقتصاد القطري في عام 2010 توقعت فيها أن يحقق الاقتصاد القطري نمواً عالياً بمعدل يصل إلى 24% بالأسعار الجارية والأسعار الحقيقية أيضاً، وأن تتحقق معظم الزيادة من ارتفاع ناتج قطاع النفط والغاز(ارتفاع الكميات والأسعار معاً)، والكهرباء والماء والخدمات الحكومية. ومن المتوقع أن يؤدي تنامي الطلب على السلع والخدمات إلى اختفاء ظاهرة التضخم السلبي، وأن يستقر المعدل فوق الصفر وبما لا يزيد عن 3%. كما سيرتفع عرض النقد بأكثر من 20 بالمائة، ويكون لذلك تأثيره الإيجابي على أسعار الأسهم في البورصة.
ولعلي بهذا الشرح الموجز قد أجبت على السؤال الذ طرحه الدكتور محمد المسفر في مقاله بالشرق يوم الجمعة عندما تعجب كيف يكون متوسط دخل الفرد في قطر من أعلى المعدلات في العالم، ومع ذلك تتزايد القضايا المالية أمام المحاكم، وتنتشر بعض الظواهر السلبية. وإذا سمحت الظروف سأعود إلى هذا الموضوع بتفصيلات أخرى في المقال القادم، علماً بأن مقال الأحد من كل أسبوع سيخصص للمتابعات الاقتصادية، في حين سيغطى التحليل المالي كل يوم جمعة أوضاع الأسهم في بورصة قطر. ويسرني بهذا الخصوص أن أتلقى استفسارات القراء على البريد الإلكتروني من موقعي الخاص:[email protected].